ما هي سمات علوّ الهمة عند المؤمن؟

تتعدّد البواعث النفسية والروحية التي تدفع الإنسان المؤمن إلى الحركة والسعي والكدح إلى الله وتختلف هذه الدوافع والبواعث بين أهل الإيمان وغيرهم، فأصحاب الهمم العالية من أهل الإيمان لا يتحرّكون انطلاقاً من تكليفهم فحسب، بل يرون في هذه الأعمال التي تقرّبهم من الله أنساً خاصّاً ولذّةً مختلفة، فيحبّون مخاطر ما يفعلون، ويعشقون أهوال ما يكابدون، ويرغبون بالمشقّات لأنهم يرون بين ثناياها ثواباً، ويُقدمون على الشدائد لأنهم يتحسّسون الأجر وعالي الدرجات بين غبارها، فلا يبالون ولا يتردّدون ولا يجبنون أو يضعفون سيّما وأنهم اتخذوا من أهل بيت العصمة عليهم السلام قدوةً لهم يحتذون حذوهم ويقتفون آثارهم ويسيرون على وقع صدى كلماتهم.
والهمّة العالية فضيلة تختزن بين طيّاتها الكثير من الخصال الحميدة والفضائل السامية أهمّها:
1- روحية التعاون: قال تعالى: ﴿…وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ…﴾.
تماماً كما أنّ هناك أعمالاً ينجزها العامل بشكلٍ فرديّ فإنّ هناك أعمالاً كثيرة لا يمكن إنجازها بشكلٍ جماعيّ من خلال التعاون والتآزر والعمل المشترك وتضافر الجهود، فأهل الإيمان العاملون في ساحات العمل الجهاديّ الذين لا يملكون روحية التعاون لا يقدرون على إنجاز الأعمال الكبيرة والمهمّة والتي هي حاجة المجتمع والناس والشأن العامّ، سيّما وأننا اليوم نرى حجم التحديات الكبرى والمؤامرات التي يحيكها الأعداء مجتمعين ومتعاونين في وجه مسيرة الحقّ.
فالمؤمن يرى نفسه جزءاً من جماعةٍ يتحرّك معها ويرتبط بها على عناوين البرّ والتقوى، فهو يعضدها ويساندها إيماناً منه أنّ العمل القربويّ عملٌ يحتاج إلى حركة الجماعة، هذه الحركة التي تستبطن ذوبان الأنا في الجماعة لا تسخير الجماعة لمصلحة الأنا.
2- المسارعة إلى الفوز بالآخرة: فالحركة السريعة عند أصحاب الهمم العالية ترتبط بطبيعة الهدف الذي ينشدونه والغاية التي يريدون الوصول إليها، والتي هي الفوز بالمغفرة الإلهية والدخول تحت عباءة رضا الله ورضوانه، تماماً كما تجد أهل الدنيا يُسارعون إلى لذائذهم الدنيوية وينفقون عليها الأموال الطائلة، فإنّ أهل الآخرة وأهل الهمم العالية عيونهم شاخصةٌ أبداً إلى حيث النعيم الإلهي، ولذلك قال تعالى: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ…﴾ فالمسارعة إلى المغفرة تعني أنها همّه الأول وهدفه الكبير لذي، وأنّ قوّة وسرعة الحركة نحو مغفرة الله ورضوانه لا تنطفىء عند إنجازٍ هنا أو توفيق هناك، بل هي حركة لا تهدأ ولا تبرد، بل ولا يوازيها شيء آخر على الإطلاق.
3- السبق إلى فعل الخير: قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ وقال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وفي دعاء كميل بن زياد(رضوان الله عليه) نقرأ “حتى أسرح إليك في ميادين السابقين”.
والاستباق فعل يستلزم مسابقة شيء آخر، وذلك لأنّ المؤمن يسابق الزمان والموت والعجز والمرض والفقر إلى فعل الخيرات والأعمال الصالحة قبل فوات الأوان.
والعامل يخشى الله تعالى فيما لو تهاون في حقوق الآخرين، فلا يؤخّر عمل اليوم إلى الغد، ولا يُسوّف حقّ إنسان، ولا يتباطأ في معاملة أيٍّ كان، بل يرى نفسه مندفعاً لقضاء حوائج الناس بكلّ حماسة، كما أنّ العامل لا يتثاقل في إعطاء العمل الوقت اللازم والتخطيط المناسب، فلا يرضى من نفسه إعطاء القليل وهو قادر على الأكثر.
4- روحية المبادرة: قال تعالى: ﴿..وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾، فالمؤمن يبادر قبل أن يقع فيتعلم قبل السقوط في متاهات الجهل، ويفكّر جيداً قبل السقوط في التسرع، وأصحاب الهمم العالية لا يستسلمون لهزيمة، بل دائماً يتحدّون الصعاب، وشعارهم أننا نقدر ونستطيع، ولا يوجد في قواميسهم أننا لا نقوى على هذا الفعل ونعجز عن إنجاز تلك المهمّة بل سرعان ما يبادرون إلى رضا الله، ولذلك ترى أنّ الآية تكشف أنه لا يوجد مساحة للتريث والتفكير بين الأمر الإلهي وفعل الإنسان المؤمن، فالأمر الذي يُحرز به المؤمن رضا الله تراه يعجل إليه دون تلكُّؤ أو تذمُّر أو استخفاف أو تثاقل كما عبّر الله تعالى ﴿..لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ..﴾ بينما ترى القرآن الكريم ذمَّ فعل إبليس إذ لم يبادر فوراً إلى امتثال أمر الله بالسجود فقال له: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ..﴾.