آيات العظمة.. بين زينب الحوراء وفاطمة المعصومة (ع)

صباح الصافي..
من المعلوم، أنَّ الأئمة المعصومين (عليهم السلام) كانت لهم أخوات وبنات عديدات، وقد عُرفن جميعًا بالتقوى والارتباط الوثيق بالرِّسالة الإسلاميَّة، ومع ذلك، تبرز السيِّدة زينب الكبرى، أخت الإمام الحسين (عليه السلام)، والسيِّدة فاطمة المعصومة، بنت الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) بمكانة فريدة من نوعها؛ إذ حظيتا باهتمام خاص وتمجيد استثنائي عبر الأجيال، والسُّؤال الذي يطرح نفسه: ما السرُّ في هذا التَّميُّز؟.
يمكن القول: إنَّ “هذا الاهتمام يعود إلى عوامل جوهريَّة عدَّة، في مقدِّمتها معرفتهما العميقة والشَّاملة بإمام زمانهما (عليه السلام)، وإدراكهما الواعي لدور الإمام ومقامه الإلهي، ممَّا جعلهما تسيران على خطى الطَّاعة الكاملة والولاء المطلق له، كذلك كان لتقواهما، وإخلاصهما اللامحدود لله (تعالى) أثر عظيم في هذا التَّميُّز؛ فحياتهما كانت تجسيدًا حيًّا للثبات على المبدأ، والاستعداد للتضحية بكلِّ غالٍ ونفيس في سبيل نصرة الحقِّ وإعلاء كلمة الله (جلَّ جلاله)، ولم يقتصر عطاؤهما على الجانب الشَّخصي؛ بل امتد أثرهما ليصبحا قدوتينِ خالدتينِ لكلِّ من ينشد السَّير على طريق الهداية والنُّور.
إنَّ ما قامت به السيِّدة زينب (عليها السلام) من مواقف بطولية في كربلاء وما بعدها، وما عرف عن السيدة المعصومة (عليها السلام) من علم وتقوى وهجرة في سبيل الله (سبحانه)، إنَّما هو شاهد حي على عظمة الروح التي سكنت قلوب هاتينِ السيدتينِ العظيمتينِ، فأصبحتا رمزينِ خالدينِ في الوجدان الإسلامي.
وهناك أوجه للتشابه بين السيدتين الجليلتين، ومن أوجه الشَّبه بينهما (عليهما السلام):
أوَّلًا: النَّسب الشريف
إنَّ السيدة زينب الكبرى والسيدة فاطمة المعصومة (عليهما السلام) قد اجتمعتا في شرف الأصل وطهارة المولد؛ فقد انحدرتا من الأصلاب الطَّاهرة والأنساب الشامخة، واستنارت نشأتهما بأضواء الطهر والنَّقاء؛ فلم تدنُ منهما رجس الجاهلية ولا لوثتهما أرجاسها، ولم تكتسيا شيئًا من ظلماتها الحالكة ولا جهلها المدلهم؛ وإنَّما وُلدتا من أبوين طاهرين عظيمين في المقام والمكانة، حازا الكرامة عند الله (تعالى) ورسوله (صلى الله عليه وآله)، ممَّا أورثهما صفاءً خاصًّا، ونقاءً فريدًا، استحقَّتا بهما أن تكونا أنموذجين لا مثيل لهما بين نساء عصرهما؛ وحتَّى عبر العصور.
ولا ريب أنَّ عوامل الوراثة المباركة، والبيئة القدسية التي أحاطت بهما منذ لحظة ولادتهما، قد تركت أثرًا عميقًا في نفسيهما وسلوكهما؛ فقد تربتا في أجواء الإيمان الخالص، تحت ظلال بيتٍ هو بيت الوحي والرِّسالة؛ حيث الكلمات تفيض حكمة، والسلوك يعبق قداسة، والأرواح مشدودة إلى رضوان الله (عزَّ وجلَّ)؛ فكان من الطبيعي أن تنعكس هذه التربيَّة الفريدة على شخصيتيهما المباركتين، فتكبر كلُّ واحدة منهما وهي تحمل نور الرسالة وعطر الإمامة، لتغدو مثالًا ساميًا في الطهر، والوعي، والثَّبات على الحقِّ.
ثانيًا: الفناء الكامل في حبِّ ومودَّة أخويهما المعصومين
حتَّى أصبحت علاقتهما أنموذجًا خالدًا للفداء والولاء والإخلاص؛ فالسيِّدة زينب الكبرى (عليها السلام) عُرفت بولائها العميق للإمام الحسين (عليه السلام)، والسيِّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) اشتهرت بمودَّتها الخاصَّة، وانجذابها الكامل نحو الإمام الرضا (عليه السلام)، حتَّى أن سيرتهما كانت مرآةً صافية تعكس عظمة هذه العلاقة، وكذلك اتَّخذت السيِّدة زينب الكبرى (عليها السلام) قرارًا مصيريًا حين اختارت أن ترافق أبا الإمام الحسين (عليه السلام) في رحلته الإلهية نحو كربلاء، تلك الرحلة التي كانت معبَّدة بالدموع والدماء، والمملوءة بالتضحية والفداء، من أجل الحفاظ على رسالة الإسلام وشريعته من التَّحريف والضياع الذي سعى الحكم الأموي الجائر إلى فرضه على الأمَّة، ولقد ساندته (عليه السلام) بقلبها وروحها، وواسته بكلماتها وأفعالها، وضحَّت بأولادها، ووقفت إلى جانبه خطوة بخطوة حتَّى لحظة الشَّهادة.
إنَّ الدور الأكبر للسيدة زينب (عليها السلام) لم يبدأ إلَّا بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)؛ فقد كانت الأمانة الكبرى، أمانة كربلاء ونهضتها، على عاتقها، وليس هناك أدنى شك في أن بقاء ذكرى واقعة الطف، وانتشار أهدافها السَّامية، وصمود رسالتها في وجه العواصف؛ كلُّ ذلك إنَّما تحقَّق بفضل توجيهات الإمام السَّجاد (عليه السلام) وما قامت به العقيلة زينب (عليها السلام) ومن معها من الأسرى والسبايا، ولولا مواقفها الشجاعة، وكلماتها الهادرة في بلاط الطغاة، ومواقفها الإعلامية الثَّابتة، لتمكَّن بنو أمية من طمس اسم كربلاء ومحو تلك المأساة الدامية بما تحمل من معانٍ خالدة من ذاكرة الأمة.
لقد أدرك الإمام الحسين (عليه السلام)، أنَّ المعركة مع بني أمية لم تكن معركة سيوف ورماح فحسب؛ وإنَّما معركة إعلام وفكر أيضًا؛ إذ علم أنَّ الطغاة لن يكتفوا بإراقة دمه الطَّاهر، وسيسعون إلى تزوير الحقائق، وتشويه النهضة، وقلب الموازين عبر أدواتهم الإعلاميَّة الخبيثة وأساليبهم الماكرة، ومن هنا كانت السيدة زينب (عليها السلام) الامتداد الحي لنهضته، والصوت الذي حمى دم الحسين (عليه السلام) من الضياع، حتَّى وصل إلينا مشعًّا بنوره وأهدافه الإلهيَّة.
وكذلك السيدة المعصومة (عليها السلام)، قال صاحب تأريخ قم: “إنَّه لما أتى المأمون بـالرضا (عليه السلام) من المدينة إلى مرو لولاية العهد في سنة 200 من الهجرة، خرجت فاطمة (عليها السلام) أخته تقصده في سنة 201 هـ، فما تلقت كتاب أخيها الرضا (عليها السلام) استعدَّت للسفر نحو خراسان، فخرجت مع قافلة تضم عددًا من إخوتها وأخواتها وأبناء إخوتها، وعندما وصلوا إلى مدينة ساوة تعرَّضت القافلة لهجوم، فقتل على إثره إخوتها وأبناء إخوتها، فمرضت السيِّدة فاطمة (عليها السلام) بعد مشاهدتها لهذه المناظر المأساوية والجثث المضرجة بدمائها، فأمرت خادمها بالتَّوجه بها إلى أرض قم”.
ثالثًا: الجهاد العظيم والصبر الاستثنائي
كلُّ واحدة منهما وقفت في وجه طواغيت عصرها، من الأمويين والعباسيين، بثبات وإيمان لا يلين؛ وقد كانت حياة السيِّدة زينب (عليها السلام) سلسلةً طويلة من الابتلاءات والمحن العظيمة، ابتدأت بفقد جدِّها الأعظم، رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثمَّ فقدان والدتها الصدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وهي لا تزال طفلة لم تتجاوز الخامسة من عمرها، لتمر بعد ذلك بمراحل متتابعة من المصائب والأحزان، توالت عليها حتَّى بلغت ذروتها في فاجعة كربلاء الدامية.
وبين هذه المحطَّات الموجعة، امتلأت حياة السيدة زينب (عليها السلام) بالآلام؛ لكنَّها لم تضعف ولم تنكسر؛ وواجهت المحن بقوَّة وعزيمة، وواجهت الجبابرة بشموخ وإباء، كانت في أشد اللحظات قسوة، تلك الصخرة الصلبة التي تتحطم عليها أمواج الظلم، وكانت في محطات الانكسار شعلةً من الصبر تضيء الدرب للآخرين.
وقد تجلى دورها الرسالي بأبهى صوره في ملحمة كربلاء وما بعدها، حينما حملت على عاتقها مسؤوليَّة مواصلة النهضة الحسينيَّة، والدِّفاع عن أهدافها ومبادئها بأبلغ الكلمات وأقوى المواقف، فكانت بحق الامتداد الحي لمسيرة الإمام الحسين (عليه السلام)، والأمينة المؤتمنة على رسالته الخالدة.
وكيف لا تكون كذلك، وهي ثمرة شجرة الرسالة ومعدن النبوة؛ فهي ابنة الإمام عليٍّ (عليه السلام) الذي لم يعرف للحياة وزنًا إذا تعارضت مع رسالة الإسلام، والذي كان في كلِّ مواقفه يقدم رضا الله (جلَّ جلاله) على كلِّ شيء حتَّى على نفسه، وهي ابنة الزهراء البتول (عليها السلام)، التي عُرفت بالعبادة والزهد والدفاع عن ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، مهما كلَّفها ذلك من عناء وألم.
لقد ورثت السيدة زينب (عليها السلام) عن والديها هذا الإيمان، وهذا الفناء في سبيل الحقِّ، حتَّى غدت رمزًا للمرأة الرسالية التي تُعلِّم الأجيال كيف يُصان الدِّين بالثبات، وكيف تُحفظ القيم بالتضحية والفداء.