“صدمة الساحل” تُعيد خلط الأوراق في سوريا

بقلم: عريب الرنتاوي..
أحداث الأيام الأخيرة في سوريا وضعت البلاد على حافة الانتقال “من التقاسم إلى التقسيم”، فالأصوات التي تعالت في مدن الساحل وبلداته، وفي محافظة السويداء، مطالبة بالحماية والتدخل الأجنبي، وداعية إلى الانفكاك عن “الدولة المركزية”، كانت تنذر بأن مخطط التقسيم أطل برأسه البشع، ولاسيما في ظل الشهية المنفتحة لأطراف إقليمية، سعت وتسعى للتمدد وبسط النفوذ، وخصوصاً “إسرائيل”، التي سارعت إلى نشر خرائط جديدة، تُرَسّم بها مناطق النفوذ والحماية والأحزمة الأمنية، بيد أن “صدمة الساحل”، التي تكشّفت عن فعل منظّم، يهدف إلى فصل الساحل عن العمق والجبل والبادية، توطئة لطلب الحماية ابتداءً، وربما تحويله إلى قاعدة ارتكاز للانقضاض على النظام الجديد في نهاية المطاف، وما رافق ذلك وأعقبه من وقائع دموية مروّعة، أخذت مختلف الكيانات والمكونات على حين غرة، ودفعتها إلى التراجع خطوة أو خطوتين إلى الوراء.
وليس صدفة أبداً، أن يأتي إنجاز “ملف السويداء” بعد ساعات قليلة من التوقيع على اتفاق الشرع – عبدي، وبعد يومين فقط من عودة الهدوء “النسبي” إلى منطقة الساحل.
تحمل هذه التطورات معاني متعددة، أهمها أن مخطط التقسيم خسر جولة، وإن كان لم يخسر الحرب بعدُ، فالاتفاقات العمومية، التي أبرمتها الحكومة السورية، مازالت غامضة، وغموضها يعكس حالة القلق والخوف من المجهول، والتي اجتاحت الأطراف جميعها، أكثر مما يعكس حالة من التوافق والانسجام الوطنيين، أما مآلاتها فستقررها تطورات المرحلة المقبلة.
وأحسب أن ما شهدته سوريا، من أحداث جسام، كان يمكن تفاديها لو أن “الإدارة الجديدة” أحجمت عن إعادة انتاج الخطأ العراقي بحل الجيش وتسريح الأجهزة الأمنية، وترك مئات ألوف العناصر والمسلحين المدربين، نهباً للبطالة والضياع.
حل الجيش ترك فراغاً ملأته، من دون منازع، قوى محلية، طائفية وجهوية ومذهبية، ودفع بمنظومة الدفاع والأمن حديثة التشكل إلى الاستنجاد بـ”القوى الرديفة”، وبعضها لا ينتمي إلى سوريا والسوريين، من أجل التدخل في معارك الساحل، إذ بات معروفاً أن هذه القوى بالذات هي من اقترف الفصول الأكثر دموية في مسلسل القتل العشوائي و”القتل على الهوية”.
في أيّ حال، فإن الوقت لم يَفُت بعد، والفرصة مازالت متاحة، أقله لاستدعاء وحدات وقطاعات من الجيش للعودة إلى ثُكَنها، وإخضاع قادتها للفحص والتقييم.
فمن كان متورطاً منهم في الدم السوري، فَلْتَجرِ محاسبته وفقاً لقواعد “العدالة الانتقالية” التي تشكلت لها لجنة خاصة بعد مؤتمر الحوار، ومن ثبتت براءته وحسن سيره وسلوكه أنيطت به مُهِمّات أمنية ودفاعية، كما يليق بدولة تدلف عتبات انتقال سياسي هو الأخطر والأصعب في تأريخها المعاصر.
أي جيش ذاك، الذي سيتمخض عن “حاصل جمع” مجاميع ذات مرجعيات مذهبية مغرقة في “ذاتيتها”، وكيف يمكن أن يكون وطنياً، وهو الذي يتحول إلى “فيدرالية عسكرية – أمنية”، كما في حالة السويداء -وربما مع قسد- التي لم تظهّر جميع فصولها بعدُ.
أياً يكن من أمر وعلى الرغم مما يحيط بالتسويات بين دمشق وكل من السويداء والقامشلي من غموض، فإن ما حدث، في حدّ ذاته، يُعَدّ خطوة إلى الأمام، تَحُول على الأقل، من دون بلوغ نقطة “اللاعودة” في العلاقة بين كيانات الشعب السوري ومكوناته، حتى إن لم تُبدّد بالكامل سنوات من العيش في جزر منفصلة، بعضها عن بعضها الآخر، ومخاوف خبيئة من نظام جديد، له تأريخ قديم في “السلفية الجهادية”، بما فاضت به من نزعات “تكفيرية” و”إقصائية”.
وهي خطوة في الاتجاه الصحيح، بالنظر إلى أنها تُعَدّ لطمة لتيارات “متأسرلة” بدأت تطل برأسها القبيح، في السويداء وشرق الفرات، وبدرجة أقل من الوضوح من الساحل السوري، تيارات تريد الاحتماء بـ”إسرائيل” والاستقواء بها على “الشركاء في الوطن”، وأخذت تبوح بما في جوفها بكل صلف ووقاحة، ورددت صدى بوحها جهات وشخصيات في كل من لبنان والعراق، استمرأت مدّ اليد إلى “إسرائيل”، ولا تجد ضيراً في الاستجابة لمندرجات “حلف الأقليات” الذي بشّر به جدعون ساعر، وأركان المؤسستين السياسية والأمنية في “تل أبيب”.
الوضع في السويداء أكثر غموضاً، وأقل مدعاة إلى الطمأنينة. هنا، يبدو “العامل الإسرائيلي” أكثر حضوراً، وتبدو معه المصالح الإسرائيلية أكثر التصاقاً بنظرية الأمن القومي، وتبدو انقسامات السويداء جزءاً من انقسام أوسع، يضرب “جبل العرب” وفلسطين ولبنان كذلك، وهو انقسام بين خياري “الأسرلة” و”العروبة”، ومن آياته السجال الدائر، عبر الأقوال والأفعال، بين وليد جنبلاط وموفق طريف.
وعَوداً على بدء إلى الساحل السوري، الذي لم يمر في تجربة “الدويلة”، كما هي الحال في شرق الفرات وجنوبي سوريا، ذلك بأن الساحل ظلّ، طوال العقود الماضية، هو “الدولة” السورية، أو في مركز القلب منها.
وبعد انهيار نظام الأسد، وجد نفسه مكشوف الظهر، وصارت مفردة “الفلول” مرادفة للقسم الأكبر من أبنائه وبناته، المنخرطين، في أغلبيتهم العظمى، في مؤسسات الدولة القديمة، الأمنية والعسكرية منها بالذات. هذا الوضع جعلهم هدفاً للانتقال وضحية له، وهو ما أدى، ويمكن أن يؤدي إلى تكرار سيناريو الأيام الفائتة، ما لم تُقْدِم دمشق على تغيير مقاربتها جذرياً، وما لم تتعمق العملية السياسية وتأخذ طابعاً جذرياً، لا شكلياً كما هو قائم حتى الآن، وما لم تدرك الإدارة الجديدة، أن سوريا لا تُحكَم بمكون على حساب آخر، ولا بعقائد إقصائية متطرفة.
الاحتفالية بتجاوز “قطوع الساحل”، وإبرام اتفاقات وتفاهمات مع السويداء والقامشلي، لا تعني أن سيف التقسيم رُفع عن عنق سوريا، ولا أن البلاد دخلت في مرحلة الأمن والنماء.
“صدمة الساحل”، وما أعقبها من تداعيات، يمكن أن يحفّزا مسارات الانتقال ويعظّما فرص الوحدة ويُبعدا شبح التقسيم، لكن مشوار سوريا للتعافي مازال مديداً ومريراً، ودونه عقبات ومصالح، محلية وإقليمية ودولية، تجعل المهمة أشد صعوبة وأكثر تعقيداً.