مرتكزات الأسرة الصالحة في ضوء حديث الكساء

صباح الصافي..
تتجلَّى عظمة الحياة الأسريَّة حين تُشيد على دعائم راسخة من العلم والأدب والمحبَّة والتربية الهادفة، فتغدو الأسرة واحةً من الطَّمأنينة والسَّعادة. وعند التَّأمّل في النُّصوص الشَّريفة الواردة في القرآن الكريم وعن المعصومين (عليهم السلام)، ندرك أنَّ لكلِّ سلوك، ولكلِّ كلمة، ولكلِّ عادة، أثرًا تربويًا يمتد من دائرة الفرد ليصل إلى بناء المجتمع بأسره. ومن هذه النُّصوص حديث الكساء الشَّريف، فهو كنز معرفي زاخر بالمعاني، تتشعَّب منه مباحث عقائديَّة وفقهيَّة وأخلاقيَّة واجتماعيَّة وأسريَّة، وغيرها من العلوم التي تهدي الإنسان إلى الرُّشد والصَّلاح، وانطلاقًا من هذا العمق، سنسلِّط الضَّوء على العبارات المتكرِّرة في هذا الحديث المبارك؛ لأنَّها تحمل أسرارًا تربويَّة قادرة على صناعة أسرة متماسكة، قادرة على مواجهة تحدِّيات الحياة بروحٍ من الانسجام، وشعورٍ يغمره الودُّ والرَّحمة.
القاعدة الأولى: التكرار الهادف
تُعدُّ ظاهرة التكرار في حديث الكساء من الجوانب اللافتة التي استوقفت بعض الباحثين، حتَّى إنَّها دفعت بعضهم إلى التَّشكيك في صحة الحديث أو إلى النَّظر إليه بعين النَّقد من زاويةٍ شكليَّةٍ بحتة، غير أنَّ القراءة الواعية للنَّص تكشف، أنَّ هذا التكرار ليس عيبًا أسلوبيًّا؛ بل هو عنصر بلاغي وتربوي عميق المقصد، يحمل في طيَّاته، إشارات تربويَّة دقيقة لا يمكن فهمها إلَّا في ضوء معرفة خصوصيَّة أهل البيت (عليهم السلام) ومقاصد الحديث الشَّريف، وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ ظاهرة التكرار ترتبط ارتباطًا وثيقًا بعلم النَّحو والبيان؛ إذ تُعدُّ من أبرز أساليب التَّوكيد في اللغة العربية، وهو أحد المباحث الجوهريَّة التي تناولها النَّحويون والبلاغيون على حدٍّ سواء.
القاعدة الثانية: المرأة العالمة أساس الأسرة الصالحة
ينطلق بناء الأسرة الصَّالحة، إلى جانب دور الأب، من حضور المرأة الواعية المتعلِّمة التي تُشكِّل بوعيها حجر الأساس في صناعة بيتٍ مستقرّ ومجتمعٍ راشد؛ إذ تمثِّل الرَّكيزة الأساس في إعداد الأجيال وتنشئتها على الإيمان والعلم والأخلاق. وكلُّ مجتمعٍ يريد أن يصنع مستقبلًا نيِّرًا لا بدَّ له أن يبدأ من المرأة؛ لأنَّها الحاضنة الأولى للفكر، والمعلِّمة الأولى للقيم، والمصدر الأعمق للتربية. ومن هنا جاء في النُّصوص الشَّريفة ما يشير إلى استحباب رواية النِّساء للأحاديث؛ لأنَّ نقل العلم ونشره ليس من شأن الرجال فقط؛ بل هو تكليفٌ تشترك فيه المرأة مع الرَّجل، ما دامت تمتلك أدوات الفهم والوعي.
وقد جسَّدت السيّدة فاطمة الزَّهراء (عليها السلام) هذا المبدأ بأبهى صوره، فهي محور الطَّهارة والعصمة؛ ومدرسة العلم والمعرفة، تفسر القرآن الكريم وتروي الأحاديث وتُبيِّن الأحكام، حتَّى غدت مرجعًا للأمَّة في فقه الدِّين وروح التَّشريع. فهي (صلوات الله عليها) أسوةٌ للرجال وللنساء في طلب العلم والتَّعليم؛ لأنَّ عصمتها -نصًّا وعقلًا وإجماعًا– تقتضي أنَّ كلَّ فعلٍ يصدر عنها مطابقٌ لرضا الله (تبارك وتعالى)، فهي لا تنطق إلَّا بالحقِّ، ولا تعمل إلَّا بما فيه هدى ونور.
القاعدة الثالثة: السَّلام مفتاح المودَّة
إنَّ الكلمة الطَّيبة في الحياة الزَّوجية هي بذرة محبةٍ تنبت سعادةً وطمأنينة في قلوب أفراد الأسرة جميعًا، وليست مجرَّد تعبيرٍ لطيفٍ يُقال. فعندما يخاطب الزَّوج زوجته بكلمات رقيقة، أو تردَّ الزَّوجة على زوجها بلطفٍ وحنان، فإنَّهما في الحقيقة يقدِّمان درسًا عمليًّا راقيًا للأبناء في أسلوب التَّخاطب واحترام المشاعر. فالأطفال لا يتربّون فقط بما يسمعون من نصائح، وإنَّما بما يرونه ويلمسونه من أجواء البيت، فإذا سمعوا كلمات المودَّة وشاهدوا الوجوه المبتسمة، نما في داخلهم أدبُ الحوار، وامتلأت قلوبهم دفئًا وحنانًا.
لذلك كان الإسلام يؤكِّد على جعل الكلمة الجميلة أساسًا للعلاقات الأسريَّة والإنسانيَّة؛ لأنَّها تعكس صفاء القلب وتهذيب اللسان، وتفتح الأبواب المغلقة بين النَّاس بالمودَّة والاحترام. ولم يكتفِ الإسلام بدعوةٍ عامَّة إلى حسن الكلام؛ بل رفعه إلى مرتبة العبادة؛ لأنَّ الكلمة الطَّيبة تصدر من قلبٍ مؤمنٍ وتعكس صورة الإيمان في سلوك الإنسان.
القاعدة الرَّابعة: إظهار المحبَّة ومدح الأطفال
هذا ليس خاصًا بالأم بل كذلك حال الأب، والأولاد بالنِّسبة إلى الأبوين، وهكذا سائر الأقرباء، فإنَّ إظهار المحبَّة نوع من الإجلال والاحترام، وهكذا حال إظهار المحبَّة بالنسبة إلى سائر المؤمنين.
القاعدة الخامسة: استعمال الطِيب
من الأحكام المستحبّة في الإسلام استعمال الطِّيب، ولا سيما الإكثار منه، فقد كان النَّبي (صلَّى الله عليه وآله) يجد في الطِّيب راحةً وروحًا، كما دلَّ عليه حديث الكساء الشَّريف؛ إذ كان يعبق مجلسه بعطرٍ طيبٍ يفوح منه نور النُّبوة وعبير الطَّهارة. وقد عُرف عن النَّبي (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه كان يُكثر من التَّطيّب، حتَّى صار الطِّيب سمةً من سمات شخصيته المباركة، وعلامةً من علامات كمال الخُلُق المحمَّدي.
ولا تقتصر فائدة الطِّيب على الرَّائحة الزكية فحسب؛ وتتعدّاها إلى آثارٍ نفسيَّة واجتماعيَّة ونفسيَّة عميقة. فهو منشّط للأعصاب، باعث على السَّكينة والارتياح، كما أنَّه يقرِّب القلوب ويؤلّف بين النفوس؛ لأنَّ الإنسان بطبعه ينفر من الرَّوائح الكريهة التي تولّد الضِّيق والانزعاج، بينما ينتعش قلبه وتأنس روحه بالرَّوائح الطَّيِّبة التي تبعث على الانشراح والمحبَّة والصفاء. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): “قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: “الطِّيبُ يَشُدُّ الْقَلْبَ” وعنه (عَلَيْهِ السَّلَامُ) أيضًا: “مَنْ تَطَيَّبَ أَوَّلَ النَّهَارِ، لَمْ يَزَلْ عَقْلُهُ مَعَهُ إِلَى اللَّيْلِ”.
القاعدة السَّادسة: طلب الإذن
قبل الشُّروع في تحليل الأبعاد العميقة لمفهوم الاستئذان الوارد في حديث الكساء، من الضَّروري أوَّلًا تقديم عرضٍ إجمالي لهذا المفهوم في ذاته، تمهيدًا للانتقال إلى دراسة ما ينطوي عليه من دلالات باطنيَّة ورمزيَّة دقيقة.
إنَّ طلب الإذن من الآداب العظيمة التي ارساها الإسلام لتربية النُّفوس على الاحترام والتَّهذيب، وهو أدبٌ يُظهر عمق الوعي بحدود الآخرين وحرمة خصوصياتهم. وقد جسَّد أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا الأدب بأرفع صورة، كما ورد في الحديث الشَّريف حيث قال: “دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ “صلَّى الله عليه وآله” وَهُوَ فِي بَعْضِ حُجُرَاتِهِ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لِي فَلَمَّا دَخَلْتُ قَالَ لِي: “يَا عَلِيُّ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ بَيْتِي بَيْتُكَ فَمَا لَكَ تَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْبَبْتُ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ. قَالَ: يَا عَلِيُّ أَحْبَبْتَ مَا أَحَبَّ اللَّهُ وَأَخَذْتَ بِآدَابِ اللَّهِ…”.



