سوء الظن.. أسبابه وآثاره وسبل علاجه

صباح الصافي..
أراد الشَّارع المقدَّس للإنسان، أن يعيش في حالة من الأمن التَّام، فلم يقتصر الإسلام على ضمان الأمان الجسديّ واللفظيّ للفرد والمجتمع فقط؛ بل تجاوز ذلك ليشمل الأمن الفكريّ أيضًا؛ لذلك دعا إلى تحسين ظنِّ الإنسان بالآخرين، وألَّا يسيء الظَّنَّ بهم أو يلقي عليهم التُّهم في دائرة تفكيره، ومن أجل ذلك حرَّم بعض الذُّنوب والأمراض الأخلاقيَّة التي تفسد فكر الإنسان وتؤثِّر سلبًا على علاقته بالله تعالى وبالمجتمع وبنفسه، ويأتي في مقدِّمة هذه الذُّنوب سوءُ الظَّنِّ في بعض صوره؛ قال الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)، وسيقوم هذا المقال على محاور أساسية:
المحور الأوَّل: تعريف سوء الظن
يتكوَّن هذا المصطلح من كلمتين متلازمتين هما: السُّوء والظَّن.
أمَّا السُّوء: “فهو كلَّ ما يغمُّ الإنسان من الأمور الدُّنيويَّة، والأخرويَّة، ومن الأحوال النَّفسية والبدنيَّة، والخارجة من فوات مالٍ وجاه وفقد حميم”.
وأمَّا الظَّن: “هو الاعتقاد الرَّاجح مع احتمال النَّقيض. وقد يستعمل في اليقين والشَّك، كما يستعمل الشَّك في الظَّنِّ …”، أو: “هو التَّصور الذي ينقصه الدَّليل”.
أمَّا اصطلاحًا؛ فسوء الظَّن: “هو الشَّك مع التُّهمة بأن يشك الإنسان في نوايا الطَّرف الآخر، ويتهمه بسوء في مقاصد أعماله ويرتب الأثر على ذلك”.
وتوضيح ذلك، أنَّه عندما يخطر الظَّن السيِّئ في ذهن الشَّخص، فإنَّه يعيره اهتمامًا عمليًّا، ويبدأ بتغيير أسلوب تعامله مع الطَّرف الآخر بطريقة غير بنَّاءة، ممَّا يؤدِّي إلى ضعف العلاقة التي تربطهما، وفي بعض الأحيان قد تتلاشى تمامًا.
ولذلك فإنَّ “الظَّن السيِّئ إمَّا حرام بنفسه وإمَّا حرّم؛ لأنَّه مقدِّمة للعمل المحرَّم؛ إذ الذي يظن سوء غالبًا ما يرتب الأثر العملي على ظنِّه السَّيِّئ”.
و”المراد بالظَّنِّ الذي يُنهى عنه هو ظنُّ السُّوء، ويُقصد بالاجتناب منه أن يتجنب الإنسان ترتيب أي أثر سلبيّ عليه، مثل أن يظنَّ السُّوء في أخيه المؤمن، فيرميه بهذا الظَّن ويذكره أمام الآخرين، ويترتب على ذلك العديد من الآثار السلبيَّة. وبالتَّالي، فإنَّ بعض الظَّنِّ يُعدُّ إثمًا بسبب ما يترتب عليه من آثار محرَّمة، مثل إهانة المؤمن المظنون به، أو قذفه، وغيرها من التَّصرفات المحرَّمة”.
وقال المولى النَّراقي (رحمه الله تعالى) في كتاب (جامع السَّعادات) تحت عنوان: (سوء الظَّن بالخالق والمخلوق): “فلا يجوز تصديق اللعين في نبأه، وإن حفَّ بقرائن الفساد، ما احتمل التَّأويل والخلاف، فلو رأيت عالمًا في بيت أميرٍ ظالم لا تظنن أنَّ الباعث طلب الحطام المحرَّمة، لاحتمال كون الباعث إغاثة مظلوم. ولو وجدت رائحة الخمر في فم مسلمٍ فلا تجزمن بشرب الخمر ووجوب الحد؛ إذ يمكن أنَّه تمضمض بالخمر ومجَّه وما شربه، أو شربه إكراهًا وقهرًا. فلا يستباح سوء الظَّنِّ إلَّا بما يستباح به المال، وهو صريح المشاهدة، أو قيام بيِّنة… ولو أخبرك عدلٌ واحدٌ بسوءٍ من مسلمٍ، وجب عليك أن تتوقف في إخباره من غير تصديق ولا تكذيب؛ إذ لو كذبته لكنت خائنًا على هذا العدل؛ إذ ظننت به الكذب، وذلك أيضًا من سوء الظَّنِّ، وكذا إن ظننت به العداوة أو الحسد أو المقت لتتطرق لأجله التُّهمة، فترد شهادته، ولو صدَّقته لكنت خائنًا على المسلم المخبر عنه؛ إذ ظننت به السُّوء، مع احتمال كون العدل المخبر ساهيًا، أو التباس الأمر عليه بحيث لا يكون في إخباره بخلاف الواقع آثمًا وفاسقًا”.
وبناءً على ما تقدَّم، يتبيَّن أنَّ سوء الظَّن ليس ميْلًا نفسيًّا أو تقديرًا خاطئًا؛ وإنَّما هو سلوكٌ إذا تُرك دون ضبطٍ زعزع الاطمئنان، وأضعف الرَّوابط، وأوقع صاحبه في المحظور. ومن هنا جاءت النُّصوص الشَّريفة وأقوال العلماء لتؤكِّد ضرورة التثبُّت، وحمل النَّاس على الخير، وترك ترتيب الآثار على الظُّنون ما لم يقم دليلٌ واضح.
المحور الثَّاني: أسباب سوء الظن
ممَّا يجدر التَّنبيه إليه أنَّ سوء الظَّنِّ لا يأتي من فراغ، ولكن تتشارك مجموعةٌ من الأسباب والعوامل لتغذِّي هذه الرَّذيلة وتُمهِّد لوقوعها، حتَّى ينتشر الضَّرر والفتنة بين النَّاس، وينتهي الأمر بعواقب لا تُحمَد. ومن أهمِّ هذه العوامل:
1- الشَّيطان
قال الله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)؛ وتُظهر هذه الآية بوضوح إحدى الآليات التي يعتمدها الشَّيطان في تفكيك البنية الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة للمجتمع؛ إذ يقوم على إثارة عوامل التَّناحر بين الأفراد وزرع ما يفسد العلاقات الإنسانيَّة.
وفي هذا السِّياق يُعدُّ سوء الظَّن أحد أبرز المنافذ التي ينفذ منها الشَّيطان لتقويض الرَّوابط بين المؤمنين؛ فهو يفتح المجال لتحوَّل المواقف العابرة إلى خلافات عميقة، ويُمهِّد لخلق بيئة يسهل فيها انتشار الاتِّهامات الباطلة، وتولد فيها مشاعر النُّفور، ويتَّسع نطاق الخصومات. وبذلك يغدو سوء الظَّنِّ مدخلًا طبيعيًا لسلسلة من الاضطرابات الاجتماعيَّة، التي قد تتطور إلى صراعات مفتوحة وفتن تُضعف تماسك الجماعة وتشوّه مناخها الأخلاقي.
2- الرَّذائل الأخلاقيَّة
تُشير مجموعة من النُّصوص الشَّريفة إلى أنَّ سوء الظَّنِّ “من نتائج الجبن وضعف النَّفس؛ إذ كلُّ جبان ضعيف النَّفس تذعن نفسه لكلِّ فكرٍ فاسدٍ يدخل في وهمه ويتبعه، وهكذا نجد أنَّ ضعف النَّفس وضعف الأعصاب أيضًا هو من أسباب سوء الظَّن بالمؤمنين”، قال الرَّسول الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله): “وَاعْلَمْ يَا عَلِيُّ، أَنَّ الجُبْنَ وَالْبُخْلَ وَالْحِرْصَ غَرِيزَةٌ وَاحِدَةٌ يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ”.
ومن هذا النَّص يتَّضح أنَّ سوء الظَّن يتأسَّس على نمط من الاضطراب النَّفسي يضعف فيه الإنسان عن مقاومة المفاهيم الخاطئة أو القاصرة، فيتحوَّل إلى بيئة خصبة لنمو الخوف والحرص المفرط والانغلاق. ومن ثمَّ يصبح سوء الظَّنِّ أصلًا تنبثق عنه صفات أخرى تُقيد الإنسان وتشوّه تفاعله مع الآخرين، وتُوهِن ذلك الدَّافع الذي يُريده الله (تبارك وتعالى) حين قال: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
3- انعكاس النَّفس المريضة
من اعتاد الاحتيال والمكر واتَّخذ الخديعة سلوكًا مألوفًا في معاملاته، تتشكَّل في داخله صورة للآخرين تُشبه ما يختلج في نفسه؛ فيظن أنَّهم يتحرَّكون وفق الأساليب ذاتها، فيقرأ تصرُّفاتهم بلغته الخاصَّة، ويُسقط عليهم ما يختزنه من تجارب منحرفة. ومَن امتلأت أقواله بالأكاذيب يضيق أفقه حتَّى لا يرى في كلمات الآخرين إلَّا ما اعتاد أن يصدر عنه، فيغدو الكذب معيارًا يقيس به صدق النَّاس أو كذبهم.
ويظهر أثر سوء النيَّة عند من يسيء الظَّن بجلاء في طريقة تفاعله مع سلوك الآخرين؛ إذ يتعجَّل بإصدار الأحكام استنادًا إلى ظنون وأوهام لم تخضع لأيِّ تمحيص، فينحرف تقديره للواقع ويضطرب حكمه على النَّوايا والوقائع. وقد عبَّر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن هذه الحقيقة النَّفسيَّة العميقة بقوله: “الرَّجُلُ السُّوءُ لَا يَظُنُّ بِأَحَدٍ خَيْراً لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ إِلَّا بِوَصْفِ نَفْسِهِ” وفي قول آخر له (عليه السلام): “الشَّرِيرُ لَا يَظُنُّ بِأَحَدٍ خَيْراً لِأنَّهُ لَا يَرَاهُ إِلَّا بِطَبْعِ نَفْسِهِ”.
وتُظهر هذه النُّصوص أنَّ إساءة الظَّنِّ هي انعكاس لنفسٍ مريضة؛ فالإنسان يرى الآخرين من خلال مرآة نفسه، فإن كانت هذه المرآة مُعتلَّة بالخبث أو الكذب أو المكر، انعكس ذلك على أحكامه وظنونه، فاختلطت عليه الحقائق، وتشوَّهت رؤيته للعالم من حوله.



