اخر الأخباراوراق المراقب

الوحدة ووهم المطابقة

محمد محفوظ..

الوحدة بين العرب والمسلمين غاية من أسمى الغايات، وهي جسر القوة والمجد.. ولكن ما السبيل إليها، وكيف يمكننا أن نحققها وننجز مفرداتها المتعددة في واقعنا الخارجي؟.

الممارسات العدوانية والانفعالية، لا تلغي الاختلافات والتمايزات، وإنما تدخلهما في علاقة صراعية، عنفية، بدل أن تكون العلاقة تواصلية وتفاعلية، ولايمكن فهم الآخر، إلا بتقدير وتحديد مساحة الاختلاف معه، وكيف يتم إدارة هذا الاختلاف.

ولعل من البديهي القول، إن الاختلاف الفكري والاجتماعي بين البشر من المسلّمات، التي لا تحتاج إلى مزيد بيان وتوضيح.. وذلك لأن مساحة الاختلاف بين البشر، هي جزء من الناموس وقانون الوجود الإنساني.. قال تعالى: (ومن آياته خلقُ السماوات والأرض واختلافُ ألسنتكم وألوانكم).

من هنا فإن مفهوم الوحدة، لايمكن اكتشافه إلا من خلال منظور الاختلاف.. وذلك لأن الاختلاف جزء أصيل من منظومة الوعي الذاتي، كما أنه (الاختلاف)هو الذي يُثري مضمون الوحدة، ويمده بأسباب الحيوية والفعالية..

فالاختلاف وفق هذا المنظور ضرورة لما له من وظيفة في بلورة معنى الوحدة وهويته الحضارية والإنسانية..

وبين الاختلاف والوحدة مسافات، لايمكن اجتيازها إلا بالتسامح والحرية، والاعتراف بقانون التعدد ومبدأ التنوع.. لذلك فإن الاختلاف المُفضي إلى الوحدة الصلبة، هو ذلك الاختلاف الذي تسنده قيم التعدد والحرية وحقوق الإنسان.. أما الاختلاف الذي يجافي هذه القيم، فإنه يفضي إلى المزيد من التشرذم والتشتت والتجزئة.

ولعل من الأخطاء الكبرى التي وقع فيها العرب والمسلمون في العصر الحديث، رؤيتهم المنمطة لمفهوم الوحدة.

فالرؤية السائدة عن هذا المفهوم، أنه يعني إلغاء حالات الاختلاف والتعدد الطبيعية والتأريخية والثقافية.. وبفعل هذا المنظور النمطي لمفهوم الوحدة، مارست السلطات التي رفعت شعار الوحدة كل ألوان القمع والإرهاب والتنكيل بحق كل التعبيرات السياسية والثقافية والاجتماعية التي تختلف رؤيتها عن هذه الرؤية، أو تتباين في أصولها العرقية أو الإثنية.

ولقد دفع العرب جراء ذلك الكثير من التضحيات والخسائر والجهود.. أدناها أن مفهوم الوحدة لم يعد يشكل في هذه الحقبة من الزمن، ذلك البريق أو الشعار الذي يستقطب جميع الفئات والشرائح.

لذلك فإنه آن الأوان لنا جميعا، أن نعيد قراءة مفهوم الوحدة بعيداً عن كل أشكال التوحيد القسري وأساليب تدمير حالات الاختلاف الحضارية المتوفرة في الجسم العربي والإسلامي..

فالاختلاف الفكري والثقافي، لا يُدار بعقلية الإقصاء والنفي، لأنه لا ينهي الاختلافات، وإنما يشحنها بدلالات ورموز خطيرة على مستوى العلاقات والوجود الاجتماعي والسياسي..

وحالات الإجماع والوحدة في المجتمعات الإنسانية، لا تُنجز إلا على قاعدة تنمية قيم التسامح والتعاون والتعدد والإدارة الواعية والحضارية للاختلافات العقدية والفكرية والسياسية على مستوى الواقع والتأريخ وليس فقط على مستوى النظر والنص..

فالاختلاف في حدوده الطبيعية والإنسانية ليس أمرا سيئا.. الأمر السيئ والخطير في هذه المسألة هو عدم الاعتراف بشرعية الاختلاف وحق صاحبه في أن يكون مختلفاً..

فالتوحيد القسري للناس، يزيدهم اختلافا وتشتتا وضياعا.. وذلك لأن محاولة إنهاء الاختلاف بالقمع والقهر يزيدها اشتعالًا.. كما أن هذا المنطق والخيار يخالفان مخالفة صريحة ناموس الوجود الإنساني، القائم على التنوع والاختلاف والتعدد..

فالتنوع مكوّن للوحدة، ولا وحدة صلبة في أي مستوى من المستويات من دون إفساح المجال لكل التعبيرات للمشاركة في إثراء هذا المفهوم، وإعطائه مضامين أكثر فعالية وقدرة على هضم كل الأطياف والقوى..

وإن أي تغييب للاختلافات الطبيعية في المجتمع، فإنه يفضي إلى غياب الوحدة والاستقرار السياسي والمجتمعي.. وذلك لأن مفاعيل الوحدة الحقيقية متوفرة في فضاء الاختلاف الثقافي والسياسي المنضبط بضوابط الأخلاق وتطلعات الإجماع والوحدة..

من هنا ندرك أهمية حضور قيمة العدل في الاختلافات الإنسانية.. حيث إن مجرد الاختلاف، ينبغي أن لا يفضي إلى الظلم والخروج عن مبادئ وقواعد العدالة.. يقول تبارك وتعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إنَّ الله خبير بما تعملون)(سورة المائدة، آية 8)..

ويقول تعالى (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكَّرون).

لذلك نجد أن الإمام علي بن أبي طالب حينما سمع بعض أهل العراق في معركة صفين يسب أهل الشام قد قال لهم (إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغيِّ والعدوان من لهج به).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى