حين يتحول الموت إلى حياة

صباح الصافي..
يهرب كثيرون من مجرَّد ذكر الموت، ويثقل على أسماع بعضهم سماع اسمه، بينما يدعونا الإسلام إلى النَّظر إليه بعين مختلفة؛ فهو ليس نهاية مطلقة، وإنَّما بداية طريق جديد، وفناء يعقبه لقاء، وخسارة ظاهرها الدُّنيا وباطنها فوز عظيم لمن استعدَّ وأحسن الزَّاد. إنَّ الموقف من الموت يعكس عمق الإيمان وقوَّة الإدراك، فكلَّما ازداد اليقين في القلب واتَّضح معنى الآخرة في الوعي، تحول الخوف إلى طمأنينة، وأصبح الموت في نظر المؤمن جسرًا مضيئًا يصل به إلى خالقه (جلَّ شأنه) وأحبّته، لا شبحًا مخيفًا يثقل قلبه ويعكِّر صفوه.
المحور الأوَّل: المعنى الحقيقي للموت.
الموت من النَّاحية اللغوية: “هو عبارة عن فقدان آثار الحياة ولوازمها وآثارها” وهو حقيقة وجوديَّة لا يمكن إنكارها، ومآل محتوم يشترك فيه جميع البشر مهما اختلفت طبقاتهم وهيآتهم؛ إذ لا يفرّق بين غني وفقير، أو قوي وضعيف، أو مؤمن وكافر، فهو سُنَّة كونية ثابتة تجري على كلِّ نفس. وقد عبَّر القرآن الكريم عن هذه السنَّة في مواضع عدَّة، منها قوله (تعالى): (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)، وقوله (سبحانه): (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) وتُظهر هذه الآيات شمولية الموت وكونه ملازمًا للوجود الإنساني، ولا يُستثنى منه أحد، كما تؤكِّد أنَّ الحياة الدُّنيا بطبيعتها زائلة، ومهما بلغ الإنسان من القوَّة أو التَّحصين فلن يُفلِت من لحظة النِّهاية المكتوبة.
وقد عبَّر الإمام الحسين (عليه السلام) عن هشاشة الحياة الدُّنيا وزوالها الحتمي؛ إذ يصوّر الدُّنيا على أنَّها مجرَّد ظلٍّ زائل لا ثبات له، ويستدعي عبر التَّساؤل مصير أصحاب السَّرايا، ومالكي الإبل والخيل، وأرباب السُّلطة والقوَّة، ومن عُرفوا بالبأس أو المكانة العالية، مشيرًا إلى أنَّ الجميع قد طواهم الزَّمن ولم يبقَ من آثارهم سوى الذِّكرى، وكأنَّهم لم يُخلقوا أصلًا.
تُعبِّر هذه الكلمات بعمقٍ عن الرُّؤية الإسلاميَّة لطبيعة الدُّنيا، فهي تضع الإنسان أمام حقيقتها الزَّائلة التي لا خلود فيها، وتدعوه إلى تأمّل مصير الماضين الذين كانوا يومًا أصحاب سلطانٍ وجاهٍ وقوَّة. إنَّها لوحة وعظيَّة تذكِّر بأنَّ مجد الدُّنيا سرعان ما يطويه النِّسيان، وأنَّ ما يبقى هو العمل الصَّالح والرِّباط الوثيق بالآخرة، في دعوةٍ رحيمةٍ إلى التَّعلُّق بما هو أبقى وأدوم من زخارف الفناء.
والموت مخلوق من مخلوقات الله (تعالى)، شأنه في ذلك شأن الحياة؛ فهما مظهران من مظاهر القدرة الإلهيَّة التي تتجلَّى في تدبير شؤون الخلق. وقد ورد عن الإمام محمَّد الباقر (عليه السلام) قوله: “الحَيَاةُ وَالمَوْتُ خَلْقَانِ مِنْ خَلْقِ الله، فَإِذَا جَاءَ المَوْتُ، فَدَخَلَ فِي الْإِنْسَانِ، لَمْ يَدْخُلْ فِي شَيْءٍ إِلَّا وَخَرَجَتْ مِنْهُ الحَيَاةُ” وهو نصٌّ يوضِّح البُعد الغيبي للموت، باعتباره كيانًا مخلوقًا يؤدِّي وظيفة محددة في دورة الوجود.
وتُفهم هذه الرِّواية في ضوء الرُّؤية العقائديَّة التي لا تنظر إلى الموت على أنَّه فناءٌ محض أو انعدام؛ بل ترى فيه فعلًا وجوديًا قائماً بذاته، يتحقّق بأمر الله (تعالى)، ويُمثِّل مرحلة انتقاليَّة من طور الحياة الدُّنيا إلى طورٍ آخر من الوجود، لا أنَّه نهاية مطلقة للإنسان.
المحور الثَّاني: من آثار ذكر الموت.
إنَّ الإكثار من ذكر الموت لا يُقصد منه إشاعة الحزن أو التَّشاؤم؛ وإنَّما هو تدريب أخلاقي يوجّه الإنسان لتصحيح بوصلة سلوكه ويشجعه على السَّير بوعي نحو الغايات النِّهائية لوجوده وفق الرؤية الإسلامية للخلود والحساب. وفي هذا السِّياق، تختلف مشاعر النَّاس تُجاه الموت تبعًا لمدى إدراكهم لمعناه وحقيقة الحياة والمآل النِّهائي؛ فبينما يراه بعضهم نهاية مؤلمة ويخشون مواجهته، يراه آخرون منفذًا إلى راحة ونعيم أبدي. وهذا التَّباين يلفت النَّظر إلى ضرورة الوعي بالموت باعتباره جزءًا من التَّمرين الذي يدفع الإنسان إلى مواجهة حياته بصدق، وإعداد نفسه إعدادًا حقيقيًا للقاء الله (تعالى)، فيتحوَّل إدراكه لفناء الدُّنيا إلى حافزٍ للعمل الصَّالح والاستعداد للدَّار الباقية.
ولقد عبَّر الإمام الحسين (عليه السلام) عن هذا المفهوم بقوله: “لِيَرْغَبَ المُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ اللهِ وَإِنِّي لَا أَرَى المَوْتَ إِلَّا سَعَادَةً وَالْحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلَّا بَرَماً” في إشارة واضحة إلى أنَّ تقبّل الموت يتجذَّر ارتباطه الوثيق بحسن الظَّن بالله (تعالى)، وبمدى تقدير الإنسان لحياةٍ تتسم بالقيمة الأخلاقيَّة، حيث لا يُنظر إلى الموت باعتباره عائقًا أو نهاية؛ وإنَّما بوصفه مرحلة من مراحل الرِّحلة التي يكتمل بها المعنى الحقيقي للوجود.
ويشير أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى انسجام قلبه مع ذكر الموت، فيقول: “واللَّه لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّه” مشبِّهًا شعوره بالموت بالسَّكينة والاطمئنان الذي يشعر به الطفل عند حنان والدته، ليظهر أنَّ مواجهة الموت قد تكون هادئة وآمنة حين يكتسب الإنسان الإيمان والعمل الصَّالح.
المحور الثَّالث: الجهل بحقيقة الموت.
إنَّ الفهم الخاطئ للموت يثير في النَّفس خوفًا ورهبة لا مبرر لها، بينما الحقيقة تكمن في أنَّ الموت هو انتقال من حالة نقص إلى حالة كمال، ومن فناء مؤقت إلى بقاء دائم. فقد بدأ الإنسان متكوّنًا من التُّراب، ثمَّ تخلَّق في رحم أمه، حتَّى أصبح كائنًا عاقلًا؛ وهذه الرِّحلة هي مسار من الارتقاء والتَّطور. وبالمثل، فإنَّ الموت هو مرحلة انتقالية نحو دار أبقى، حيث يكتمل فيها معنى الوجود الحقيقي.



