دبلوماسية القوة العقائدية

محمد علي جواد تقي..
من كان يُصدّق، ان نجاح خطة دبلوماسية يصمد فيها شخصٌ يفتقد لمساندة سياسية وعسكرية، ثم يفرض إرادته ومنهجه على مجتمعه، رغم أنه من الناحية الاجتماعية يتيم، ومن الناحية الاقتصادية فقير.
إنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، “صلوات الله عليه وعليهم”، حُبي بالرسالة الإلهية الخاتمة وصدع بها في مجتمع موغل بالجاهلية والقسوة والظلم، مبشراً بنور العلم والأخلاق والانسانية الصادر من توحيد الخالق والايمان بقيم وأحكام السماء.
ما عنده أمر عظيم للغاية لم ينكره مشركو قريش، مثل؛ معجزة القرآن الكريم ولغته السامية وغير المعهودة، بيد أن ظروفه الاجتماعية كانت غاية في الصعوبة، عرضته لمختلف أشكال الضغوط الاستفزازات والتهديدات الى حدّ الموت، ولكن قبل مرحلة الصِدام، تصور قادة المجتمع المشرك، أن بوسعهم استيعاب النبي وتليين موقفه من مسألة الشرك بالله تعالى وعبادة الأوثان، وهي تعد مسألة محورية وعقدية تمسّ كرامتهم.
لذا اتفق نفرٌ من أشراف قريش منهم؛ الحارث بن قيس، والعاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، وآخرين لإجراء مفاوضات مع النبي الأكرم، تقوم على أساس “الحل الوسط” بعد شعورهم بالخطر من القوة المعنوية لما يدعو اليه، فاقترحوا مقايضة في العبادة؛ “هلمّ يا محمد فاتبع ديننا نتبع دينك”، فجاء الرفض القاطع منه، “صلى الله عليه وآله”، و”عندما رأى سادات قريش هذا الموقف الصلب والمبدئي الصارم، قدموا تنازلاً آخر، فقالوا: نحن في البداية طلبنا منك سنة في مقابل سنة، الآن نتنازل إن تنازلت؛ فاستلم بعض آلهتنا نُصدّقُك، يعني تمسّح بإحدى الأصنام وكفى ذلك، وبعد هذا التنازل الغريب الذي قدموه لم يَرد أن يجيبهم، وإن كان الردّ واضحاً، لكنه أراد أن تكون الحجة عليهم أتمّ، فقال: حتى أنظر ما يأتي من عند ربي فنزلت: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}”.
كيف يتحول الضعف الى قوة خلال المفاوضات؟
ربما يقول البعض اليوم: إنه رسول الله، وخاتم الانبياء، وأشرف الخلائق أجمعين، وحبيب رب العالمين، وهي صفات نطلقها في أدبياتنا الدينية على نبينا الأكرم، ولكن! في تلك الأيام التي نتحدث عن تجربة دبلوماسية فريدة من نوعها، لم يكن النبي حينها يمتلك جزءاً ما يمتلكه اليوم شخصية سياسية إسلامية في العراق، من مال، وسلاح، ووجاهة اجتماعية، وتحالفات سياسية، مع ذلك، لم يَمِل عن الحق طرفة عين، فالإعجاز كان يأتيه من السماء بحكمة إلهية خاصة، ولم يطلب لنفسه الحماية من الملائكة أمام الحصى والحجارة التي كانت تهطل عليه خلال مروره في طرقات مكة، حتى كانت الدماء تسيل من قدمه وجسده، نعم؛ الحماية الإلهية كانت تواكب حياته طيلة الثلاث عشرة سنة بين مشركي مكة، ولكنه فضّل مسايرة مجتمعه بغية إيصال صوت الحق اليهم بالتي هي أحسن.
نقطة واحدة من جملة نقاط يمكن التركيز عليها في تجربة النبي الدبلوماسية، فهو استفاد من ثغرة اهتزاز ثقة المشركين بأنفسهم وبعقيدتهم، ليفرض نفسه كتيار اجتماعي يُحسب له حساب، حتى إن ردّه لهم بأن “أنظر ما يأتي من عند ربي”، تمثل مصداقية عظيمة لرسالته السماوية، وأنه مسنود من مصدر قوة لا متناهية، ويفوقهم في الذكاء والأداء السياسي.
بالمقابل؛ فان هذا الموقف، عزز الثقة عند شريحة من المجتمع المتفاعلة والمستجيبة لنداء الإسلام، فكان الإيمان يتسرّب الى القلوب بسرعة كما تتسرب المياه الى الأرض الجدب، ليعرف المسلمون أنهم يؤمنون بدين يرتبط عضوياً بالفطرة النقية للإنسان، ويعبر عن همومه وطموحاته، لذا ليس من شأنه المساومة أمام واقع اجتماعي وسياسي متهالك قائم على الباطل. هذا المكسب الاجتماعي، تبعه المكسب السياسي لتتحول دعوة النبي من التوحيد الى تيار ديني جارف تحول فيما بعد الى المدينة بعد هجرة النبي الأكرم من مكة.
{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}
الآية الكريمة التي نزلت على صدر رسول الله، منحته فرصة تأريخية واستثنائية ليثبّت أول تجربة دبلوماسية ناجحة في مواجهة حضارية مع الشرك والجهل، فبعد الرد السماوي الحازم برفض الاستجابة لفكرة التمسّح بالأوثان ولو لحظة واحدة، جاءت الآية الكريمة الخاتمة لسورة الكافرون: {لَكُم دِينُكُم}، ليؤكد النبي الأكرم للمجتمع المكي، بل ولمجتمع الجزيرة العربية آنذاك، والعالم كله أنه لا يشعر بالضعف ولا الخواء العقدي، ولا يشكو عقدة النقص حتى يشن حملة تسقيط وإبادة كما فعل المشركون معه خلال وجوده في مكة.
وحتى بعد هجرته الى المدينة وتحوله الى قوة سياسية واجتماعية، وتشييده اللبنات الاولى للدولة الاسلامية، لم يرسل مجاميع عسكرية خاصة تتسلل خفية الى مكة لتحطيم الأصنام في الكعبة وأماكن أخرى، كما لم يفعلها قبل هجرته، فالغاية؛ الايمان القلبي وعن رضا نفسي تام بعيداً عن التهديد والتغرير، لذا اتفق المؤرخون وأصحاب السِير على أن غزوات النبي كانت ذات طابع دفاعي بحت، ولم تكن عمليات هجومية لإرغام الناس على اعتناق الاسلام.
ونفهم من تجربة النبي الأكرم في الميدان الدبلوماسي، أن لا حاجة مطلقاً للتنازل والمهادنة على الحق وقيم الدين مهما كانت الظروف والأسباب، فالذي يجلس أمامنا في الجانب الآخر مرحب به ترحيب الإسلام، وبوسعه تصفح القيم والمبادئ والثوابت الإسلامية كما نفعل الشيء ذاته في أجواء من الودّ والاحترام المتبادل، ما من شأنه إعطاء رسالة دقيقة وصحيحة له بأن ما في الإسلام يغنينا عن أية مساومة أو مداهنة، فإما القبول بما عندنا أو البقاء حيث هو إذ قال: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، وكلٌ يتحمل مسؤولية اختياره والطريق الذي فيه.



