آباء العلم والعمل

من الأمور التي سجلها التأريخ بموثوقية عالية، أن البعثة النبوية (المحمدية) تمكنت من إحداث تغيير هائل في المنظومة الأخلاقية والعُرفية في البيئة الاجتماعية التي ظهرت فيها، وهناك شواهد وأدلة لا تقبل النقض تؤكد تقدم دولة المسلمين، ونهوضها القوي المتعاظم، ووقوفها إلى جانب إمبراطوريات كبرى، بل تفوقت عليها في العلم والعمل.
ومن هذه الشواهد المؤكَّدة، تلك القدرات الاقتصادية الكبيرة التي حققها المسلمون في غضون عقود قليلة، بالإضافة إلى القدرات العسكرية المشهود لها بسبب تلك النهضة العلمية العملية الواضحة للعيان، مما يثبت بأن المسلمين كانوا أهلا للعلم والعمل، وحققوا قفزات سريعة وعظمى في مجالات العلم، مما سهَل عليهم تعظيم ظاهرة العمل التي انعكست على دولة المسلمين وجعلتها تسير في طريق التقدم بشكل مدروس ومتسارع.
وكان المسلمون أبان الرسالة النبوية وإعلانها على الملأ، أهلاً للالتزام بحسن التدبير الذي ضاعف من أموالهم وثرواتهم، وجعلهم في طريق التقدم، وميَّزهم على الدول الأخرى، حيث يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (حسن التدبير ينمّي قليل المال، وسوء التدبير يفني كثيره)، ولكن حين ترك المسلمون تعاليم الإسلام وذهبوا إلى الكسل والخمول تغيّرت أوضاعهم إلى نقيض التقدم، وساروا في طرق التخلف والضلال.
أما في التأريخ القريب أو المنظور، فقد ظهرت ثروة النفط عند المسلمين، وقد مضت على اكتشافه عقود طوال، وكانت الشركات الأجنبية هي التي استدلت على هذه الثروة واكتشفتها، وحفرت آبار النفط واستخرجته وسوَّقته، وكانت تشترط أجوراً عالية ومجحفة في مقابل ذلك، ولأن المسلمين لم يعرفوا هذه الصناعة سابقا، قبلوا بهذا الإجحاف، ورضخوا لشروط الشركات.
لا يصح أن نبقى تحت وطأة الابتزاز
ولكن بعد مرور زمن طويل على اكتشاف النفط، هل يجوز أن نبقى تحت رحمة الابتزاز، ونرضخ لشروط مجحفة تأخذ ما يقارب 80% أو أكثر وتترك الفتات لأهل الثروة النفطية، ألم يكن من الواجب أن نربي الخبراء في هذه الصناعة ونتعلم كي نتقدم، ولا نسمح بالشروط الظالمة لاستخراج النفط، لماذا لم يواكب المسلمون التطور في هذه الصناعة حتى تكون عائدات النفط كلها في خدمة البلدان الإسلامية؟.
إن مسألة التركيز على أهمية الاستغناء، تهدف بالدرجة الأولى إلى إنقاذ ثروات المسلمين النفطية من ابتزاز الشركات التي لا تتردد في وضع الشروط الظالمة على من يحتاجها في استخراج النفط وتسويقه، بينما يوجد لدينا الكثير من التعاليم والأحاديث الشريفة التي تحث الجميع على أهمية الاكتفاء الذاتي واكتساب الخبرات العلمية والعملية.
لذا فإن أي عمل غير مقرون بالعلم، لا فائدة منه، بل اشتراط وجود العلم مع العمل هو المعيار الأول للنجاح، وعمل بلا علم لا يفيد بل يُفسد، لهذا جاء التأكيد على هذا النوع من الاقتران بين العلم والعمل، حتى لا نقع في فخ الحاجة للآخرين، ومنهم من يضع شروطه للقيام بهذه الحاجة، وهذا في الحقيقة نوع من الاستحواذ على ثرواتنا أمام أعيننا.
فالمطلوب احترام العلم والبحث عنه والتشبث به، لكي يكون بوابتنا نحو العمل الصحيح الذي يؤدي بدوره إلى التقدم والنجاح، ولكي نستثمر ثرواتنا ونصنعها أو نستخرجها بأيدينا وخبراتنا التي تغنينا عن الحاجة للشركات أو غيرها.
عالمنا يضج بالأمم الباحثة عن التقدم
وهكذا أمر الله الإنسان بتعمير الأرض أو إعمارها، ليس بالعمارات والبنايات والطرق والجسور وحدها، وإنما بإحياء الأرض وتخليصها من بوارها وتحويل الأرض السبخة إلى أرض خصبة معطاء، نبذر فيها أنواع الزرع، لتكون مصدراً لمعيشة الإنسان، وهذا الأمر لم يأتِ بلا مقومات، بل منحنا الله العلمَ لكي نحوّله إلى عمل يعمّرُ الأرض ويجعلها صالحة للحياة.
وهذا بالطبع لا يمكن تطبيقه إذا كنّا خاملين وكسولين، نهرب من التعب، ونبحث عن الراحة والاسترخاء، فكيف تُعمَّر الأرض إذا غاب العمل، وقبله إذا فقدنا العِلم، لذا أوجب علينا الكدح المتواصل، واللجوء إلى الراحة لاستعادة نشاطنا الجسماني العضلي حتى نعاود العمل من جديد دونما تقاعس أو تهاون، فمن لا يعمل لا يمكنه تحقيق العيش الكريم، وقبل ذلك من يعمل بلا علم، لا فائدة من عمله، لأنه سوف يكون مضرّا ومفسِدا.
وهناك بديهيات لابدَّ أن يعرفها المعنيون بتقدّم البلدان والمجتمعات، والناس فرادى أيضا، وأول هذه الأمور، أن يعرف الجميع بأن العلم وحده لا يبني شيئا، ولا يمكن أن يكون سببا في تقدم البدان وشعوبها، وكذا الحال بالنسبة للعمل بمفرده أو وحده، فإنه لن يكون طريقاً أو سبباً في تطور وتقدم الإنسان، لأن العمل المنزوع عن العلم، لن يفيد بشيء بل يلحق الضرر بالعاملين بلا علم، ويجعل عملهم هباءً وتضيع جهودهم سدى.
كذلك الأمر بالنسبة للأموال فهي وحدها عاجزة أيضا عن وضع أقدام الإنسان على طريق التقدم، فما فائدة أن تكون لديك ثروات وأنت بلا علم، أو مجرّد من القدرات العملية والخبرات والكفاءة اللازمة للإنجاز، وهناك داعم آخر للنجاح بالإضافة إلى وجود مقومات العلم والعمل والأموال، وهذا الداعم في غاية الأهمية، وهو أن يكون الإنسان متواضعا ومتفاهما مع الآخرين، لأن الصفتين الأخيرتين هما بمثابة المجذاف الذي يدفع الزورق إلى أمام.
هكذا بالضبط يحتاج التقدم إلى التواضع والتفاهم مع الأطراف الأخرى حتى يسير زورق التقدم نحو الأمام، بلا معوّقات ولا مشكلات.



