إقالة قادة البنتاغون.. هزيمة استخبارية أمريكية وانتصار إيراني في معركة السردية

بقلم: السيد شبل
قرار وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث، بإقالة جيفري كروس، رئيس وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية (DIA)، إضافة إلى قادة عسكريين كبار من بينهم رئيس الاحتياط ومسؤول قيادة الحرب الخاصة في البحرية الأمريكية، يكشف بوضوح حجم الارتباك الحاصل في المؤسسات الأمريكية بعد الحرب التي اندلعت بين إيران والعدو الإسرائيلي، خلال الشهر ما قبل الماضي، والتي ألقت فيها واشنطن بثقلها السياسي والعسكري كي تحدّ من آثار الهزيمة التي مُنيت بها حكومة بنيامين نتنياهو.
فالإدارة الأمريكية وجدت نفسها بصدد معادلة معقدة، فمن جهة، كانت “تل أبيب” على وشك مواجهة نتائج استراتيجية كارثية بعدما نجحت الصواريخ الإيرانية في اختراق منظومات الدفاع، واستهداف مراكز عسكريّة ومدنيّة في العمق الإسرائيلي بصورة غير مسبوقة؛ ومن جهة أخرى، كان دونالد ترامب بحاجة ماسّة إلى تقديم صورة “النصر” لحلفائه، خصوصاً وهو مقبل على استحقاقات داخلية صعبة، ويواجه انتقادات حادّة لسياساته الخارجية.
هذا التناقض سرعان ما تبلور في أزمة داخلية، إذ ظهرت روايتان متناقضتان: رواية ترامب والبيت الأبيض التي روّجت انتصاراً ساحقاً على إيران، ورواية مضادة تستند إلى تقارير استخبارية أمريكية أكثر تحفظاً، أشارت إلى أن الضربات الأمريكية لم تؤخر البرنامج النووي الإيراني سوى بضعة أشهر، وأن القدرات الإيرانية استوعبت الضربة وتتعافى منها، وهي التقارير التي جرى تسريبها إلى وسائل الإعلام الأمريكية، ووضعت مؤسسة الرئاسة في حرج أمام الشارع الأمريكي.
إقالة كروس وصراع الولاء الاستخباري
وفقاً لأبسط قواعد الديمقراطية، كان من المفترض أن يحظى الفريق جيفري كروس، رئيس وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية (DIA) بالتقدير لا بالعقاب، فقد أدّى مهمته بمهنية عالية، ونقل ما توصّلت إليه أجهزته من معلومات دقيقة حول الموقف داخل إيران، متحملاً مسؤوليته كاملة في إطلاع القيادة على الحقائق، من دون أن يشارك في تضليل الشعب الأمريكي كما فعل الرئيس دونالد ترامب.
كروس، ببساطة، يقود جهازاً استخبارياً تابعاً للبنتاغون، يختص بجمع المعلومات العسكرية لدعم القوات المسلحة في ساحات القتال، ويُعرف بـ”عين الجيش”، وهو بذلك يختلف عن وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) التي تُعد جهازاً مستقلاً عن وزارة الدفاع، وتُعنى بملفات سياسية واقتصادية وأمنية أوسع، وترفع تقاريرها مباشرة إلى الرئيس، ما يجعلها أقرب إلى “عين الدولة”.
معركة السردية.. حين تنتصر طهران بالكلمة قبل السلاح
منذ اللحظة الأولى، تبنّت إيران خطاباً واقعياً حين أكدت، أن الهجمات لم تُحدث سوى أضرار محدودة وقابلة للتعويض، وهو ما اتضح لاحقاً أنه الأقرب للصحة، فإصرار ترامب على تصوير الضربات التي نُفذت فجر 22/6/2025، وأطلق عليها اسم “عملية مطرقة منتصف الليل، باعتبارها “واحدة من أنجح العمليات العسكرية في التأريخ” اصطدم بالحقائق على الأرض، إذ واصلت طهران أنشطتها النووية وأظهرت قدرة على امتصاص الصدمة، وبعد مرور حوال شهرين، لا تزال واشنطن وعدد من العواصم الأوروبية تسعى للضغط على طهران للتفاوض حول برنامجها النووي، الذي يزعم ترامب ونتنياهو أنهما قد دمراه. الإقالات الأخيرة تكشف أن واشنطن لم تخسر فقط في الميدان العسكري، بل أيضاً في معركة السردية؛ إذ بات واضحاً أن إيران استطاعت ترسيخ روايتها وإثبات صدقيتها أمام الرأي العام الإقليمي والدولي، بينما غرقت الإدارة الأمريكية في دوامة من التناقضات الداخلية ومحاولات فرض “ولاء استخباري” للرئيس على حساب المهنية.
في المحصلة، يمكن القول إن ما جرى يعكس انتصاراً إيرانياً مزدوجاً: أولاً، بقدرتها على الصمود عسكرياً أمام ضربة أمريكية-إسرائيلية مشتركة، والردّ عليها عبر قصف الأراضي المحتلة والقواعد العسكرية الأمريكية، وثانياً، بإثبات مصداقية خطابها مقابل الانكشاف الأمريكي أمام العالم.
دروس من التأريخ الأمريكي.. الإقالات بعد الهزائم
إقالة كروس والقيادات المصاحبة له، ليست الأولى من نوعها في تأريخ الولايات المتحدة، فثمة سوابق تكشف، أن الإخفاقات أو الهزائم العسكرية عادة ما تجرّ معها إقالات أو تغييرات في القيادات.
– الحرب الكورية (1950–1953): أقال الرئيس هاري ترومان الجنرال دوغلاس ماك آرثر بعد خلاف حول إدارة الحرب وتصعيده المفرط مع الصين.
– حرب العراق (2003-2011): تم دفع وزير الدفاع دونالد رامسفيلد نحو الاستقالة عام 2006، ذلك بعد تزايد الانتقادات لإدارة الحرب، واعتُبر ذلك اعترافاً ضمنياً بفشل الاستراتيجية.
– افغانستان: في 2010 أقال أوباما الجنرال ستانلي ماكريستال قائد القوات الأمريكية بعد تصريحات انتقد فيها البيت الأبيض، ما عكس تبايناً في الرؤية حول إدارة الحرب.
اليوم، تأتي إقالة كروس في السياق نفسه، كمحاولة لإيجاد “كبش فداء” بعد فشل في تحقيق الأهداف المعلنة للحرب على إيران، غير أن الفارق أن الإقالة هنا لم تكن نتيجة خسائر ميدانية، بل جاءت بسبب اختلاف في التقييم الاستخباري، وهو ما يعكس عمق الأزمة داخل النظام الأمريكي.
تداعيات إقليمية ودولية
المشهد داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية، والإجراءات التي أشرف عليها ترامب مؤخراً، ربما تعد خبراً عابراً لا يثير انتباه المواطن العربي، لكن المشهد في الحقيقة له تداعيات، لا تقتصر على الداخل الأمريكي، بل تمتد إلى نطاقات أوسع:
على مستوى الحلفاء: تفقد واشنطن ثقة شركائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لأنهم يعتمدون على تقييمات الولايات المتحدة الاستخبارية، فكيف يمكن إقناعهم بجديّة التقديرات الأمريكية إذا كانت تخضع لمزاج الرئيس؟!.
على مستوى الخصوم: تعزز إيران موقفها التفاوضي والسياسي باعتبارها الطرف الذي لم يخسر سرديته، ولم ينكسر أمام الضغوط.
على مستوى المنطقة: سيضعف موقف “إسرائيل” التي راهنت على “الضربة القاضية” الأمريكية، لتجد نفسها أمام واقع مختلف تماماً، حيث لم تحقق الضربة الردع الموعود.
وفي المحصّلة، فإن هذه الإقالات تكشف أن أزمة واشنطن لم تعد محصورة في إخفاق عسكري أو تقدير استخباري خاطئ، بل امتدت إلى أزمة ثقة داخلية وخارجية معاً؛ وبينما تسعى الولايات المتحدة جاهدة لترميم صورتها أمام الحلفاء والخصوم، تبدو إيران الطرف الأكثر قدرة على تثبيت روايته وصياغة سرديته، في وقت تتراجع فيه مصداقية الدولة، التي لطالما قدّمت نفسها باعتبارها “النموذج الديمقراطي” و”الضامن للأمن العالمي”.



