لا تتمنوا المستحيل

في زمن تتشابك فيه متطلبات الحياة مع تحدياتها، يظن الإنسان أن الراحة التي يحلم بها يمكن تحقيقها، فينبثق حديث الإمام الصادق “عليه السلام” ليذكرنا بأن كل ما يتمناه القلب في هذه الدنيا ما هو إلا سراب زائل، فها هو الإمام يضع أمام أصحابه عبارة تحمل في طياتها من الحكمة ما يريحهم عن عبثية التمني ويحثهم على السعي في طريق العمل الصالح والعبادة لوجه الله تعالى، إذ قال في مجلسه الميمون مع أصحابه: (لا تتمنوا المستحيل) فرد الأصحاب بتساؤل إذاعة لأسرار قلوبهم (ومن يتمنى المستحيل؟!) فرد عليهم بكل وضوح: (أنتم… ألستم تمنون الراحة في الدنيا؟) فأجابوا بالإيجاب، فقال الإمام “عليه السلام”: (الراحة للمؤمن في الدنيا مستحيلة).
هذا الكلام الذي انساب كجدول صاف يحمل بين جريانه معاني صادقة لا تقبل التمويه أو التزييف، يفتح آفاق الفكر على مصراعيها ليستكشفها الباحث عن المعاني الحقيقية للحياة، إن الحديث ليس قاصراً على قيمته اللفظية فحسب، بل هو رسالة تربوية شاملة تعيد ترتيب أولويات الإنسان، فتجعله يدرك أن الراحة التي يرجى نيلها في هذه الحياة الدنيوية ليست سوى وهم مؤقت لا يدوم – ورد عن أبي عبد الله “عليه السلام” انه قال: قال رسول الله “صلى الله عليه وآله”: (مالي وللدنيا إنما مثلي ومثلها كمثل الراكب رفعت له شجرة في يوم صائف فقال تحتها ثم راح وتركها وأن السعادة الحقيقية والرضا الأبدي لا ينالان إلا في دار الآخرة).
في ضوء وصية الإمام الصادق (عليه السلام)، يمكننا استنباط مجموعة من المفاهيم الأساسية التي تسلط الضوء على حقيقة الحياة وطبيعتها:
خلق الإنسان في كبد
يريد الإنسان بطبيعته أن ينعم بالراحة، ويهرب من التعب، ويتمنى حياة خالية من المشقة، لكن الإمام الصادق (عليه السلام) يضع الحقيقة بين أيدينا دون مواربة، الراحة في الدنيا مستحيلة، فإن هذه الأرض ليست موطن السكون، بل دار اختبار يمتحن فيه الله صبر عباده، وصدق نياتهم، ومدى استعدادهم للتضحية في سبيله، يقول الله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) هذه الآية وحدها كفيلة بأن توقظ النفس من أوهامها، فهي تعلن أن الإنسان خلق ليكابد، ليجاهد، ليشق طريقه وسط الأمواج المتلاطمة للحياة.
السراب وخيبة الأمل
الراحة التي يبحث عنها القلب ليست في الاسترخاء الجسدي، بل في طمأنينة الروح وسكينتها، يخطئ الإنسان حين يظن أن الراحة تكمن في امتلاك المال أو النفوذ، أو في حياة خالية من الأعباء والمسؤوليات، لكن إذا تأمل قليلا في حقيقة الأمر، أدرك أن كل لحظة هدوء في الدنيا زائلة، وأن كل سعادة مؤقتة مشروطة بألم يسبقها، أو خوف يلحقها، ولهذا جاء القرآن الكريم لينبه الإنسان إلى زيف هذا التصور، فيذم السراب الذي يخدع العيون والقلوب، قال تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب) ففي هذه الآية الكريمة، يشبه الله عز وجل أعمال الكافرين بالسراب الذي يراه الظمآن ماءً من بعيد، فإذا اقترب منه، خاب أمله ولم يجد شيئا، بل واجه الحقيقة الصادمة، فهكذا هي الدنيا، من اغتر بزخارفها الزائلة، أدرك خيبة الأمل عند انكشاف حقيقتها.
المحن والاختبارات
إن كل ما نراه من ملذات وآمال دنيوية هو بمثابة اختبار للبشر، إنه ابتلاء من الله يختبر به قوة إرادة المؤمن وثباته، فروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: “عجبت للمرء المسلم لا يقضي الله عز وجل له قضاء إلا كان خيرا له وإن قرض بالمقاريض كان خيرا له وإن ملك مشارق الأرض ومغاربها كان خيرا له”، فهذا الحديث الشريف يظهر أن المؤمن يعيش بإيمان راسخ يجعله قادرا على استقبال الخير والشر بنفس راضية، فهو يشكر عند السراء، مدركا أن النعم هي من فضل الله عليه، ويصبر عند الضراء، عالما أنها ابتلاء من الله لصقل نفسه ورفع درجاته.
فان تأملنا في تأريخ الأنبياء والصالحين، نجد أنهم كانوا أكثر الناس تعرضا للابتلاءات، ومع ذلك، كانوا نموذجاً في الصبر والرضا، فهذه المحن ليست مجرد اختبارات، بل هي أيضا إشارات إلى قرب العبد من الله ومحبة الله له، كما ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن عظيم الأجر لمع عظيم البلاء، وما أحب الله قوما إلا ابتلاهم) فالله يبتلي عباده المؤمنين ليرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة.