أعمال عاتكة الخزرجي تثير الأسئلة عن العلاقة بين الإنسان والطبيعة الخضراء

المراقب العراقي / المحرر الثقافي …
ترى الفنانة والناقدة التشكيلية أميرة ناجي أن تجربة عاتكة الخزرجي النحتية تضعها بين الأصوات المهمّة في النحت العراقي المعاصر لأنها تمنح المادة لغة جديدة وترى في كل ألياف قصة وفي كل خيط حياة وفي كل عمل وعدًا بالتحول والجمال والدهشة.
وقالت في قراءة خصت بها ” المراقب العراقي”: إن “النحات (أوغست رودان) قال إن النحت ليس ما تصنعه الأيدي بل ما تهمس به الأرواح في صمت الحجر، فالفنان في جوهره لا يشكل الكتلة بقدر ما يكشف عنها إنه يحررها من خامتها ليمنحها حياة خفية لا تُدرك إلا بالبصيرة لا بالبصر هذه الفلسفة التي تتجاوز حدود التقنية وتبحث عن الروح قبل الشكل نجد تجلياتها العميقة في تجربة الفنانة العراقية عاتكة الخزرجي التي اختارت أن تجعل من الألياف النباتية مادتها الأساسية ومن الطبيعة مصدرًا للغتها البصرية”.
وأضافت :”في مشهد تشكيلي تتكدس فيه الأساليب وتتجاور المدارس تبرز تجربة الخزرجي كصوت متفرد يعيد اكتشاف المادة من جديد فهي لا تنحت بالمعادن أو الصخور بل تتجه إلى الطبيعة الأم تبحث في جذورها وأغصانها وأليافها عن لغة أخرى ألين شكلًا وأعمق روحًا، إنها لا تتعامل مع الألياف بوصفها مادة طرية بل بوصفها كائنًا حيًا يملك ذاكرته الخاصة تحمل آثار التراب والريح والماء لتتحول في يدها إلى رمز وإلى فكرة وإلى أسطورة صغيرة تنهض على سطح العمل”.
وتابعت :إن” أول ما يواجه المتلقي أمام أعمالها هو ذلك التحوّل الغامض بين هشاشة المادة وقوة المعنى إذ تبدو منحوتاتها وكأنها أجساد تنبض من داخلها تنمو وتتلوى وتنهض نحو الأعلى حتى تبدو الألياف النباتية كما لو كانت تنفصل عن أصلها الأرضي وترتفع بحركة خفية نحو الفضاء فيتحول النحت إلى طقس روحي يلامس الوجود ويتجاوزه”.
وأوضحت :”في إحدى أعمالها تخلق الخزرجي طائرًا كونيًا لا ينتمي إلى الطيور الواقعية بل إلى الأساطير يمتد بجسده الخفيف وأجنحته المتشابكة كما لو أنه يخرج من عمق الزمن ليحلق في كونه الخاص، هذا الطائر المصنوع من خيوط الطبيعة ذاتها لا يظهر ككائن هش بل كرمز للتحول والبعث والانطلاق إنه يذكّر بصورة الفينيق لكن دون نار ودون رماد فهو يولد من الألياف نفسها من رقتها وقابليتها للتشكل فيصبح العمل استعارة بصرية عن قدرة الإنسان على تجاوز سقف الواقع والتحليق بالروح”.
وواصلت “وفي عمل آخر تظهر هيأة بشرية تتخذ شكلًا عضويًا متصاعدًا تتشابك فيه الخطوط الليفية كما لو أنها جذور تبحث عن نورها الخاص، الرأس هنا يتحول إلى قرص دائري يستدعي صورة الكواكب أو الشمس في دلالة على الوعي الكوني وعلى ذلك البحث العميق الذي يربط الإنسان بالطبيعة والفضاء في آن واحد التشويه ليس غاية بل ضرورة فلسفية لإعادة صياغة الإنسان ككائن متحوّل يتجاوز حدود الجسد والمكان”.
وأوضحت :أن” ما يميز تجربة الخزرجي هو قدرتها على تطويع المادة الطبيعية بطرق لا تبدو مألوفة فهي تجمع الألياف وتنسجها وتضغطها وتتركها تتنفس وتتشقق متعمدة أن تمنحها شكلها الخاص دون تزييف صلاتها بالأرض كل أثر طبيعي يبقى حاضرًا، الخشونة والخيوط والتعرجات والعقد كل ذلك يتحول إلى جزء من سردية العمل لا إلى خلل شكلي”.
وبينت :”أن أعمالها التي تستوحي الطبيعة بشكل مباشر هي أقرب إلى حكايات بصرية منها إلى محاكاة للعالم الخارجي الأشكال التي تشبه النباتات الجبلية أو الزهر البري ليست نسخًا للواقع بل تحويلًا له إلى رموز للصلابة والجمال الخشن والقدرة على الحياة وسط القسوة، وتمنح الخزرجي هذه الأعمال ألوانًا ترابية خفيفة تمتد بين البني والرمادي لتذكّر المتلقي بالتراب وبالجذور وبأصل الخليقة”.
وأكملت :”ومن الناحية الفكرية لا تقدّم الخزرجي أعمالًا جاهزة للقراءة بل أعمالًا تثير الأسئلة حول العلاقة بين الإنسان والطبيعة بين هشاشة الروح وقوة المادة بين الأرض والفضاء أعمالها تدفع المتلقي إلى التأمل وإلى البحث عن مكانه الخاص داخل هذا الكون المتغير إنها منحوتات تفكر وتدعو للتفكير،أما تقنيًا فقد استطاعت أن تمنح الألياف النباتية قدرة على التحليق والبقاء شكلًا وروحًا إذ تعيد تشكيلها بطرق دقيقة تجمع بين الحرفية والتجريب تارة تنسجها وتارة تفصلها وتارة تتركها تلتف حول نفسها كما لو أنها تنمو من تلقاء ذاتها هذا التماهي بين يد الفنان والمادة هو ما يمنح أعمالها صدقها وجمالها وفرادتها”.
وختمت بالقول :”إن” تجربة عاتكة الخزرجي ليست مجرد اشتغال على مادة جديدة بل هي رؤية تجعل من الطبيعة مصدرًا للروح والفكرة ومن الألياف النباتية جسدًا يتكلم لا بأصالته وحدها بل بما تحمله من ذاكرة الأرض ومن دهشة الخلق الأول إنها فنانة تكتب قصيدتها بالخيوط والجذور وتصنع من الهشاشة قوة ومن البساطة أسطورة وتجربتها تضعها بين الأصوات المهمّة في النحت العراقي المعاصر لأنها تمنح المادة لغة جديدة وترى في كل ألياف قصة وفي كل خيط حياة وفي كل عمل وعدًا بالتحول والجمال والدهشة”.



