كيف نقضي على إدمان المعاصي؟

إن السبيل إلى التغلب على إدمان المخدّرات والمسكرات، وإدمان الغيبة والنميمة، وإدمان السرقات المقنّعة، وغيرها من رشوةٍ، وغشٍّ، وغير ذلك،هو أن الإنسان، وإن اقتنع بأنّ هذه معصية، وتلك معصية، ولكنّه قد لا يرتدع عن فعلها، حيث تُسوِّل له نفسه، ويُزيِّن له شيطانُه، فعليه حينئذٍ الاستعانة، بعد الدعاء والتضرّع إلى الله جل اسمه، والتوسّل بالرسول وآله، بالقوّة المتخيّلة، وأن يتمثل أو يتجسّد المعاصي وآثارها في مخيّلته.
والقضيّتان التاليتان توضّحان لنا جوانبَ من ذلك:
الأولى: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) نَزَلَ بِأَرْضٍ قَرْعَاءَ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: ائْتُوا بِحَطَبٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ بِأَرْضٍ قَرْعَاءَ، مَا بِهَا مِنْ حَطَبٍ، قَالَ: فَلْيَأْتِ كُلُّ إِنْسَانٍ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، فَجَاءُوا بِهِ حَتَّى رَمَوْا بَيْنَ يَدَيْهِ، بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): هَكَذَا تَجْتَمِعُ الذُّنُوبُ، ثُمَّ قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالْمُحَقَّرَاتِ مِنَ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ طَالِباً أَلَا وَإِنَّ طَالِبَهَا يَكْتُبُ (ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ).
والرواية شديدة الدلالة، إذ كان من السهل أن يقول لهم النبيّ (صلى الله عليه وآله): إنّ المعاصي تجتمع وتتكاثر، فاحذروا حتّى المحقّرات منها، لكنّه بدل ذلك، حيث كان يعلم (صلى الله عليه وآله) أنّه لا يكفي لردع الكثيرين، استعان بتشبيه المعقول بالمحسوس: والمعقول: اجتماع المعاصي، والمحسوس: تجمّع تلٍّ من الأشواك وقِطَع الحطب الصغيرة المتناثرة هنا وهناك رغم أنّ الأرض كانت جرداء وقرعاء ويبدو أنّه لا حطب فيها أصلاً، فهكذا المحقّرات من الذنوب تبدو لك لا شيء، لكنّك لو تبصّرت في المثال الذي ضربه (صلى الله عليه وآله)، عرفت أنّها باجتماعها تشكّل كمية كبيرة خطيرة.
الثانية: ما سُمِعَ من أحد العلماء الكبار، من قضيّة عابد في بني إسرائيل، لعله قال إنّه كان من عباد بني إسرائيل وأنه كان يُسمّى بـ (ثويّة بن ضمّة)، وإنّه كان متورّعاً عن المعاصي، لكنّه، بعد أن بلغ سنّاً متقدّمة، ولنفرضها 70 سنة، فكّر مع نفسه ذات يوم، وقال: هَب أنّني عصيت الله تعالى كلّ يومٍ معصيةً واحدةً فقط: من كذبةٍ بيضاء مثلاً (مع أنّ الكذب كلّه أسود، وكلّ كذب كبيرة من الكبائر، ولا توجد كذبةٌ بيضاء أصلاً، لكنّه تسويل إبليس)، أو غِيبة، أو نظرة إلى أجنبيّة، أو ظلم لقريب أو بعيد، أو… (أقول: ذكر بعضهم أنّ أحد العلماء نصح شخصاً بأن يأخذ مسبحة، وكلّما عصى معصيةً عدَّ خرزةً منها، كي يعرف كم معصيةً ارتكبها في ذلك اليوم.. فإذا به يجد أنّه قد أدار مسبحته إلى نهاية ذلك اليوم مرتين أو ثلاثاً! إذ ما أكثر ما ينظر الشاب أو غيره إلى النساء، وما أكثر الغيبة، حتّى في المجلس الواحد… إلخ).
والشاهد: أنّه خمّن مع نفسه، أنّه لو عصى كلَّ يومٍ معصيةً واحدة فقط، واستمرّ ذلك خمسين سنة، لقارب ثمانية عشر ألفَ معصية!.
فعندما تفكّر في ذلك – ويبدو أنّه تجسّد معنى المعصية وخطورتها أمام رَبِّ الأرباب – اعتلَّ، ومرض، وازداد مرضه شدّةً، حتّى شهق شهقةً فمات.
ويُذكّرنا ذلك بقصّة همّام مع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
ونقول: لا يكفي لكثيرٍ من الناس مجرّد تصوّر تراكم هذا العدد الكبير من المعاصي، بل عليهم مع ذلك أن يتجسّدوا المعصية نفسها، مستعينين بالقوّة المتخيّلة، على شكل متجسّد، كأن يتخيّل الغيبة كأكل لحم الميت الإنساني، كما قال تعالى: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ)، بل يزيد على ذلك بأن يتصوّرها جثّةً مُنتنةً، وهو يأكل منها، فكلّما أراد أن يغتاب، جسّد أمام ناظريه أنّ الغيبةَ هي هكذا.. وكذلك عليه أن يتجسّد الكذب بشكل ثعبان، وظُلمُ الزوجة، والأولاد، والجيران، والمنافسين، والعمال، والموظفين، بشكل ذئابٍ وضِباعٍ تحيط به، وتهاجمه من كلِّ حدبٍ وصوب.
وذلك هو ما يسمّى كلاميّاً بـ (تجسّم الأعمال)، والمطروح في علم النفس باسم (الاستجابة الشرطية) التي طرحها بافلوف، حيث يُحدِثُ بذلك ربطاً قوياً بين هذا المعنى المعقول (الغيبة، الظلم، الاغتصاب…)، وذلك الشكل المحسوس: الحيوان المفترس الضاري، والنار المحرقة كما قال تعالى: (إِنَّما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعيراً)[.
نعم الظاهر: أنّ الصفات الرذيلة، وحالات الناس، وعمق درجة إدمانهم واعتيادهم، وكذلك قوّة شخصيّاتهم، مختلفة، لذلك قد يحتاج أحدهم إلى تركيز أكبر، وإيحاء أكثر، وتخيّل وتجسّد أعمق، ومدّة أطول، عكس غيره.



