ثلاثية العلم

صباح الصافي..
العقل الإنساني أشبه بمصباح لا يزداد إشراقًا إلَّا إذا مُدَّ بالوقود المناسب. وهذا الوقود هو العلم والمعرفة؛ فالحياة بكلِّ تحوّلاتها تفرض علينا أن نكون في حالة دائمة من البحث والاكتشاف، وألَّا نركن إلى الجمود أو نكتفي بما وصلنا إليه من معارف أو تجارب.
إنَّ الإنسان الذي يحرص على الاستمرار في طلب العلم، ويوازن ذلك بمراجعة ذاته ومحاسبتها، ويغذي عقله بالفضول المعرفي، إنَّما يسلك طريقًا يجعل منه شخصيَّة متجدِّدة، قادرة على التَّكيف، والإبداع، والتَّميُّز. وهذه الرَّكائز الثَّلاث هي أسرار بناء العقول الكبيرة التي تصنع المستقبل وتخلِّد أثرها في التَّأريخ.
1-الاستمرار في طلب العلم.
العِلم هو الرَّكيزة المحوريَّة التي يقوم عليها ارتقاء الإنسان وتقدُّم المجتمع معًا، فهو ليس تراكمًا للمعارف والمعلومات، وإنَّما رحلة متواصلة من البحث والاكتشاف والفهم العميق، ومهما بلغ حجم معرفتنا، يبقى هناك دائمًا مجال للتَّعلم والتَّوسع في الإدراك. والتَّوقف عن العلم يعني الجمود والتَّخلي عن الفرص التي تتيح لنا تحسينَ حياتنا، وتطويرَ عقولنا، وبناءَ مستقبل أفضل.
من هنا يمكن القول: إنَّ علاقة العلم ببناء العقل علاقة تكامليّة تُعطي للعقل طاقته الحقيقيَّة؛ فالعلم هو الزَّاد الذي يغذي مداركه ويقوِّي قدرته على الفهم. وكما يحتاج الجسد إلى الغذاء ليستقيم وينمو، يحتاج العقل إلى العلم والمعرفة ليزدهر ويتَّسع أُفُقه.
بالعلم يستطيع العقل أن يفرِّق بين الحقيقة والزَّيف، ويقيِّم ما يواجهه من أفكار ومعلومات بموضوعيَّة ودقَّة، ويكتسب ملكة النَّظر العميق في الأمور. وكلَّما غاص الإنسان في طلب العلم، ازدادت بصيرته إشراقًا، وتحرَّرت أفكاره من الجهل والسَّطحيَّة، واتَّسعت مداركه نحو آفاق الحكمة التي تجعل منه إنسانًا أكثر وعيًا وقدرة على قيادة حياته بوعي راسخ ورؤية نافذة، والباعث على ذلك؛ لأنَّ التَّعلُّم المستمر يرفع من قدرات العقل ويغذِّيه بروح الابتكار والإبداع؛ فكلُّ معرفة جديدة يكتسبها الإنسان تُولِّد في داخله أفكارًا ورؤى مغايرة تفتح أمامه سبل التَّفكير بطرق غير مألوفة، وتمنحه القدرة على صياغة حلول خلَّاقة للعقبات التي يواجهها. والابتكار هنا هو حصيلة التَّفاعل الحي بين العقل والمعرفة؛ إذ يتحوَّل العلم إلى أدوات فعَّالة بين يدي العقل، تساعده على الإبداع، وتدفعه إلى اكتشاف مسارات جديدة توسِّع دائرة الفهم والعمل، وتجعل الإنسان أكثر قدرة على صناعة التَّغيير.
كذلك فإنَّ المواظبة على التَّعلُّم تزيد في الإنسان قدرة أعمق على التَّعامل مع الآخرين بفعَّالية وروح احترام، وتمنحه مرونة تمكِّنه من التَّعايش مع مختلف أنماط التَّفكير. وكلَّما توسعت معارفه أصبح أكثر تقبُّلًا للاختلاف، وأكثر وعيًا بأهميَّة التَّنوع بوصفه مصدر غنى وإثراء للتجربة الإنسانيَّة.
ولا يقتصر التَّعلُّم المستمر على كونه وسيلة للتطور المهني والشَّخصي، فهو أيضًا وسيلة للحفاظ على شباب العقل وحيويته. وقد أظهرت الدِّراسات العلميَّة أنَّ المواظبة على التَّعلُّم وممارسة النَّشاط الذِّهني المتجدد تساعد في تأخير مظاهر الشَّيخوخة العقليَّة، وتحدُّ من احتماليَّة الإصابة بأمراض الذَّاكرة مثل (الزهايمر)؛ فالعقل الذي يعتاد على التَّفكير والبحث واكتساب معارف جديدة يبقى نشطًا ومتجدِّدًا، محتفظًا بقدرته على الإبداع والعطاء في مختلف مراحل العمر.
العلم رحلة ممتدة لا تعرف التَّوقف، فمهما اتَّسعت معارف الإنسان يظل هناك دائمًا أفق جديد ينتظره ليتعلَّمه ويستكشفه. وهذه الرُّوح السَّاعية إلى التَّعلُّم المستمر هي التي تصوغ عقلًا متجدِّدًا، وتمنحه قوَّة أكثر قدرة على الفهم والإبداع والتَّعامل مع واقع الحياة برؤية أوسع ووعي أعمق؛ إذ المواظبة على التَّعلُّم تجعل من العقل عقلًا قادرًا على ابتكار حلول جديدة، وعلى التَّكيُّف مع التَّغيُّرات المتسارعة، وعلى مواجهة المصاعب برؤية واسعة ومرونة راسخة في مختلف مراحل العمر.
لذلك، فإنَّ طلب العلم ليس مرحلة عابرة تنتهي مع الدراسة الأكاديميَّة أو الاكتفاء بما حصَّله الإنسان في مرحلة معيَّنة؛ وإنَّما هو مسيرة دائمة؛ فكلُّ معرفة جديدة يكتسبها الإنسان تُضيء داخله، وتفتح أمامه أبوابًا لفهم أوسع للحياة، ورؤية أعمق للعالم؛ لذا، لا تتوقف عن طلب العلم، لا في دِينك الذي يهديك، ولا في دنياك التي تعيشها، فالعلم هو المفتاح الذي يفتح لك أبواب المستقبل، ويمنحك القدرة على مواكبة التَّغيير، وصناعة فرص جديدة للنَّهضة والتَّقدُّم.



