اراء

في غزة.. صمود بوجه الكارثة!

بقلم: أحمد عبد الرحمن..

في غزة المُجوَّعة يفتقر معظم الناس لما يسدّ رمق أطفالهم، ولما يروون به ظمأهم، إذ تسبب تشديد الاحتلال حصارَهُ الظالم على مئات آلاف المواطنين ممن آثروا البقاء في مناطقهم التي أنهكتها الحرب، وحولتها إلى أشباه مدن، وقرى تنعق فوق أسوارها البوم، وتتجوّل في شوارعها المخرّبة الحيوانات الضالة التي تقتات على أجساد الشهداء المُلقاة في معظم الطرقات، تسبب في حالة من الجوع غير المسبوق، والعطش غير المشهود،إذ لم يسبق أن مرّت غزة كمدينة عريقة وجميلة بمثل ما تمرّ به حالياً من إفقار وتجويع وتعطيش، فالمعابر التي كانت تُدخل بعض المساعدات قد أُغلقت، والطائرات التي كانت تُلقي القليل من الفتات قد غادرت، ومحطّات المياه التي كانت توفّر ما تيسّر من مياه صالحة للشرب قد تركت المدينة بآلاتها وموظّفيها، أما آبار المياه التي كانت تعمل يوماً في الأسبوع بفعل نقص الوقود فقد نضبت مياهها بفعل القصف والتدمير والتخريب الذي تعرّضت له، حتى المبادرون أو الغالبية العظمى منهم قد آثروا النجاة بأرواحهم ومشاريعهم ،وفضّلوا إكمالها في مناطق الوسط والجنوب بعيداً عن غارات الاحتلال وأحزمته النارية المكثّفة.

في غزة لا مكان صالحاً للسكن أو النوم، إذ جرى تدمير أكثر من ثمانين بالمائة من مناطقها العمرانية، في شرقها وغربها، وشمالها وجنوبها، بل إن كامل مناطقها الشرقية في التفاح والزيتون والشجاعية باتت مناطق مُخلاة بفعل اعتداءات الاحتلال، أما معظم مناطقها الجنوبية في الزيتون وتل الهوى والصبرة والشيخ عجلين، والشمالية في الشيخ رضوان ،والغربية في النصر والشاطئ فهي مناطق قتال وعدوان، لا تكاد تمر ساعة إلا وتشهد فيها تلك المناطق غارات وقصفاً وانفجارات يسمعها القاصي والداني، بل وتصل أصواتها إلى وسط فلسطين المحتلة في اللد والرملة وتل الربيع وجنوبها في الخليل وما يجاورها.

في غزة لا مكان للتداوي أو الحصول على رعاية طبية ولو في حدّها الأدنى، فما تبقّى من مستشفيات أو أشباه المستشفيات يكاد يفتقر إلى أدنى مقوّمات الطبابة، فلا أجهزة أشعة، ولا رنين مغناطيسياً، ولا مستلزمات لجبر الكسور ووقف النزيف، حتى الأدوية المهدّئة للآلام والمسكّنات والتي يحتاجها كل المصابين والجرحى باتت مفقودة، إلى جانب أدوية الأمراض المزمنة كضغط الدم والسكري وغيرها، جميعها غابت عن مشافي غزة ومراكزها الطبية المحدودة بصورة لم تحدث من قبل، يُضاف إليها افتقار المشافي للكوادر الطبية المختصّة، والتي سقط العشرات من أصحابها شهداء في عمليات استهداف ممنهجة ومقصودة، فيما اضطر البعض الآخر إلى الرحيل جنوباً حفاظاً على حياة أسرته بعد أن تلقّى العشرات من رسائل التهديد بالقتل من أجهزة استخبارات العدو .

ما سردناه أعلاه في عجالة هو جزء مما يحدث في غزة، بل هو الجزء الظاهر مما يجري في هذه المدينة الجميلة والساحرة، أو التي كانت كذلك في يوم من الأيام، فإلى جانبه كوارث في كل المجالات، ومصائب تسقط فوق رؤوس السكّان من مختلف الاتجاهات، ومصاعب لا تكاد تجد لها حلّا أو مخرجا، فهي تترى كموج البحر، وكبرى كسحب السماء، وبلا نهاية ككابوس أسود يلاحق صاحبه كلما خلد إلى النوم.

غير أن كل ما سبق والذي يمكن أن يراه القارئ نذير شؤم لما هو آتٍ على مدينة غزة، يجد ما يقابله من أمل وبشريات، من ثقة تتجدّد كل ساعة بل كل دقيقة، من إيمان بأن الغد الآتي على صعوبته لن يكون إلا كما أراد الله، لا كما يريد الأعداء، وأن الأيام الصعبة التي يحياها الناس في غزة زائلة لا محالة، بغض النظر عن نتائجها القريبة أو البعيدة، فهي غمامة صيف ستغادر سماءنا بعد حين، وستزول آثارها عمّا قريب، وترجع إلى السماء زرقتها كما كانت على الدوام.

في غزة يجترح الفلسطيني الأصيل كمّاً لا حصر له من المعجزات، في محاولات لا تتوقّف لإيجاد البدائل لكل ما خرّبه أو دمّره الاحتلال، وهو بذلك يمارس دوره في إفشال مخطّطات الاحتلال تماماً كما يمارسها المقاتل في الميدان، فكلاهما يكمّل أحدهما الآخر ، وكلاهما يدقّ مسماراً في نعش محاولات الاحتلال القضاء على ما تبقّى من حياة في غزة الرائعة والحبيبة، وكلاهما يكتب الأمل في مستقبل مُشرق رغم أنف كل الأعداء، قريبهم وبعيدهم.

في غزة يستخدم السكّان الحطب لمواجهة أزمة انقطاع الغاز الطاحنة، والتي حرمتهم طهو طعامهم الشحيح عبر الطاقة النظيفة، فلجأوا إلى الأخشاب التي يحصلون عليها من البيارات التي جرّفها الاحتلال، ومن أثاث البيوت التي هدمها ودمّر كل ما فيها.

في غزة يُعمَل على إيجاد حلول وإن كانت بسيطة لكل المشكلات التي نتجت عن العدوان، وإيجاد بديل لكل ما منعه الاحتلال، وهي كلها أمور على بساطتها تسهم بالتخفيف من وطأة الحرب على السكّان، وتسهم كذلك بتعزيز صمودهم، وتثبيتهم في أماكن سكناهم حتى وإن كانت مدمّرة.

ختاماً نقول إن الحياة في غزة ستستمر حتى من دون بيوت أو مدارس أو مستشفيات، حتى من دون أسواق ومركبات وطاقة وكهرباء، لأن غزة أكبر من مجرّد مدينة، وأعظم من مجرّد مكان للسكن او الإقامة، فهي وطن، وأرض، وسكّان، هي روح، وقلب، وأنفاس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى