الوثيقة السرية لعربات جدعون.. دلالات الفشل وتوقيت الكشف

بقلم: شرحبيل الغريب..
رغم تصدير الرواية الرسمية في “إسرائيل” بأن عملية عربات جدعون حققت أهدافها وستنتقل للمرحلة الثانية، لم يكن مفاجئاً أن يقر جيش الاحتلال الإسرائيلي داخلياً بفشلها رسمياً، فبعد نشر القناة الإسرائيلية 12 تقريراً ووثيقة سرية تعترف للمرة الأولى بشكل صريح بفشل العملية في تحقيق أهدافها الجوهرية، وعلى رأسها إعادة الجنود الأسرى وإخضاع حركة حماس، إذ إن هذا الاعتراف ينسف الرواية والسردية الرسمية الإسرائيلية التي رَوَّجتْ طوال الأشهر الأخيرة أن العملية ناجحة وحققت أهدافها، جاءت الصدمة من توقيت الكشف عن وثيقة سرية تصف العملية بأنها لم تحقق أهدافها فعلياً.
الوثيقة تكشف عن ثلاثة إخفاقات قاتلة للجيش الإسرائيلي، تمثلت في غياب المواءمة العملياتية في أسلوب المقاومة القائم على سلاح الأنفاق وحرب المدن والشوارع، وبطء الإيقاع والتخطيط العشوائي الذي جعل “الجيش” يكرر دخول مناطق في قطاع غزة سبق أن أعلن السيطرة عليها، والفشل في إدارة البعد الإنساني والإعلامي، مقابل تفوق حماس في الهيمنة على خطاب المشهد الدولي بخطاب التجويع والحصار والمعاناة الإنسانية.
تسريب الوثيقة الآن ليس صدفة، بل يأتي في توقيت حساس وعشية اجتماعات أمنية وعسكرية وسياسية تخوضها “إسرائيل” لمناقشة المرحلة المقبلة من الحرب ووسط مطالبات إسرائيلية بإعادة احتلال مدينة غزة وتهجير سكانها، لكن هناك رسالة مهمة وبارزة في هذه الوثيقة المسربة، هي أنه لا يمكن تكرار عربات جدعون بذات الطريقة والأسلوب وانتظار نتائج مختلفة هذه المرة، وكل ما يعني الجمهور داخل “إسرائيل”، ومعهم أهالي الجنود الأسرى، هو إعادتهم أحياء، لا عدد الأنفاق التي دُمرت أو المباني التي سُوّيت بالأرض بفعل الغارات الجوية الإسرائيلية، أو حتى بأرواح المدنيين الفلسطينيين الذين يُقتلون يومياً.
صحيح أن هذا الاعتراف الذي جاء في الوثيقة يندرج في سياق داخلي لاستخلاص الدروس من معركة مستمرة بين “إسرائيل” والمقاومة الفلسطينية، إلا أن تسريبه للإعلام في هذا التوقيت يفتح الباب على مصراعيه لقراءة معمقة أكثر، من حيث الأبعاد والتوقيت من جهة، وفي السياق الأوسع للحرب على غزة من جهة أخرى.
لعل من أهم وأبرز القضايا التي يمكن التوقف عندها، هو أن الوثيقة تخلص إلى نتيجة مهمة مُفادها أن عربات جدعون لم تحقق أهدافها الحاسمة، وأن الكلفة السياسية والأمنية تزايدت من دون تحقيق هدف استراتيجي كما يريد نتنياهو.
يهدف الكشف عن الوثيقة إلى الحد من المبالغة في التصريحات الرسمية، والحد من الصراع الداخلي القائم مع طول أمد الحرب واستنزاف الجيش المستمر، وتزايد الضغوط من الاحتياط والنخب الأمنية، بضرورة إجراء مراجعات جذرية وتحديد استراتيجية واضحة لجدوى استمرار الحرب، وإصرار الحكومة على استبعاد الحل السياسي.
هناك مسألة في غاية الأهمية الاستراتيجية يمكن تسجيلها في سياق توقيت التسريب تحديداً، إذ تكشف الوثيقة أن “إسرائيل” وقعت في فخ المعادلة غير المتكافئة في مدن وشوارع قطاع غزة، وأن القوة العسكرية الهائلة التي تمتلكها لا تمنحها إنجازاً كما تريد أمام فصائل المقاومة الفلسطينية، التي تتبع أسلوب حرب الشوارع والعقد القتالية وحرب الأنفاق، وهذا يعني فشل معادلة الردع مقابل الحسم، كما أكدت كل التجارب السابقة أن حرب المدن قادرة على استنزاف أقوى الجيوش في العالم.
تسريب الوثيقة في هذا التوقيت يضع “إسرائيل” أمام ثلاثة خيارات صعبة ومعقدة، لكن إذا ما جرى الوقوف على حقيقة المعركة ونتائجها، فمن السهل التوجه نحو الخيار الأسهل في ظل مشهد معقد.
الأول/ إصرار المستوى السياسي في “إسرائيل” على مزيد من التصعيد وتشديد حلقات الحصار واحتلال مدينة غزة، وهذا سيناريو سيكون مكلفاً لـ”إسرائيل” وله أثمان سياسية وعسكرية وإنسانية كبيرة.
الثاني/ الذهاب إلى صفقة تبادل للأسرى، وهذا خيار فيه أقل كلفة عسكرية، لكنه يواجه معارضة من شركاء نتنياهو في الحكومة وتحديداً بن غفير وسيموتريتش.
الثالث/ إبقاء الوضع على ما هو عليه بتوغلات عسكرية محدودة في الأطراف الشرقية والشمالية لقطاع غزة، لكن هذا السيناريو يعني استمرار حال الاستنزاف من دون إنجاز حسم عسكري في غزة.
لعل السؤال الأبرز بعد كشف هذه الوثيقة والذي يُسأل في “إسرائيل” يدور حول قدرتها على صياغة استراتيجية جديدة قادرة على الحسم، أم أن الحرب ستظل دائرة في حلقة مفرغة تكرر التجارب نفسها؟ خاصة أن أخطر ما جاء في الوثيقة هو الكشف عن الأزمة المزدوجة التي تعيشها “إسرائيل” التي باتت أمام خيارات ثلاثة لا رابع لها، لكن أياً من الخيارات هذه لن يلغي حقيقة باتت مثبتة بوثائق رسمية صادرة عن جيش الاحتلال الإسرائيلي تعترف بأن “إسرائيل” فشلت في تحقيق أهدافها الجوهرية وعربات جدعون لم تنجح في الأساس لتبدأ عربات ثانية، أما المقاومة”حماس” في غزة فلم تُهزم ومصرّة على تحرير الأسرى ووقف الحرب وإعادة الإعمار.



