اخر الأخباراوراق المراقب

الأسلوب المحمدي في صناعة النفوس.. أسرار التربية المؤثرة

صباح الصافي..

حين يتأمَّل المرء في واقع المسلمين الرَّاهن، ويقف عند مسيرة الحركات الإسلاميَّة التي حملت على عاتقها نشر رسالة الله (تعالى) في الأرض، يجد صورةً مزدوجة تستدعي الوقوف الطَّويل؛ فقد اجتهدت هذه الحركات في إعداد المناهج، ورسمت الخطط والبرامج، وهيَّأت الطَّاقات التَّربويَّة والتَّعليميَّة، واستجمعت ما وسعها من معلمين ودعاة ومرشدين، غير أنَّ الفرد قد يمضي أعوامًا متطاولة بين جدران هذه المؤسسات وهو بعدُ لم يبلغ تلك القامة الربَّانية المنشودة، ولم يتحوَّل إلى ذلك القلب المضيء الذي يُعوَّل عليه عند نزول البلاء واحتدام الصراع بين الحقِّ والباطل. وقد يخرج أحيانًا أكثر اطِّلاعًا في العلوم، أو أشد التزامًا بالشَّعائر الظَّاهرة؛ لكنه يفتقد الرُّوح التي تجعل من علمه نورًا، ومن التزامه حياة، ومن حضوره رسالةً تشعُّ فيمن حوله.

وعلى الضفة الأخرى، يكشف لنا التَّأريخ الإسلامي الأوَّل عن مشهد آخر يثير الدَّهشة ويستدعي العبرة؛ رُوِيَ‏ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وآله) لِيُعَلِّمَهُ الْقُرْآنَ، فَانْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ (تَعَالَى): (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

فَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا، وَانْصَرَفَ!

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله): “انْصَرَفَ‏ الرَّجُلُ‏ وَهُوَ فَقِيهٌ” فنلاحظ أنَّ الأعرابي كان يأتي إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، فيؤمن بما جاء به من غير تكلُّف ولا طول مكث. ولم تكن الأيَّام تمضي حتَّى يتحوَّل ذلك القادم البسيط، الذي لا يملك ثقافةً متراكمة ولا خبرةً سابقة، إلى إنسان يتزوَّد من معين الرِّسالة الصَّافي، ويتخلَّق بالأخلاق المحمَّديَّة الكاملة، فيغدو صورةً ناطقةً لمدرسة الإسلام. ولا يقف الأمر عند ذلك؛ وإنَّما ينطلق من إصلاح ذاته، فيبني مجتمعه من جديد، ويتهيأ لتحويل حاضره إلى جسرٍ لمستقبلٍ أرحب، ويجعل من التَّغيير سلَّمًا لتغيير الأمَّة بأسرها.

إنَّ هذا التَّباين العميق بين المشهدينِ يثير في العقل والقلب معًا سؤالًا جوهريًّا: كيف أمكن للكلمة النَّبويَّة الصَّادقة أن تُحدث انقلابًا جذريًّا في نفوس النَّاس، بأدوات قليلة ووسائل محدودة، فتجعل منهم بناة حضارة وحَمَلة نور، بينما نجد في حاضرنا أدوات كثيرة، وخططًا مكتوبة، وتوجيهًا متكررًا، ومع ذلك يظلُّ التَّحول الإيماني متباطئًا أو عسيرًا؟

هل السرُّ في صدق المبلِّغ، أم في صفاء المتلقي، أم في بركة الرِّسالة حين تُلقى من قلبٍ متصل يسكنه الله (تعالى) إلى قلبٍ متعطش للحقِّ؟

لماذا لم تتمكَّن الكثير من الهيآت الإسلاميَّة من أداء هذه الرِّسالة العظمى، على الرَّغم من وضوحها وضرورتها؟

 هل كان الخلل في ضعف البرامج التَّربويَّة وضيق أفقها؟

 أم في الوسائل التي بقيت أسيرة القوالب التَّقليديَّة، فلم تُلامس روح العصر ولم تخاطب حاجات الجيل؟

أم أنَّ العيب الأكبر يكمن في إغفال التَّطبيقات العمليَّة، والاكتفاء بالجانب النَّظري الذي يثقل الذَّاكرة ولا يغذِّي الرُّوح؟

قد يصدق أنَّ لكلِّ هذه العوامل نصيبًا من المسؤوليَّة؛ لكن لبَّ المشكلة أبعد مدى؛ فإنَّ السَّبب الأبرز في هذا التَّعثر هو غياب “العالِم الربَّاني” الذي يرى فيه الطَّالب أخًا أو ابنًا، لا مجرَّد تابع أو متلقٍ؛ إذ المربِّي الحقيقي هو الذي لا يقف عند حدود إلقاء المعلومات أو ترديد الشعارات، وإنَّما يعكس أخلاق النَّبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) وأخلاق أهل بيته (صلوات الله عليهم) في تربيته، فيعطي العلم وهو ممزوج بالرَّحمة، ويبث الهداية وهي مشفوعة بالمحبَّة، ويجعل من سيرته مرآة لشمائل الرَّسول الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله)، فيسري أثره في القلوب كما تسري الحياة في العروق؛ فتبني القلب قبل أن تبني الفكر، وتحوّل المدرسة من قاعة للتلقين إلى ملاذٍ يفيض بالنُّور.

حين أراد النَّبيُّ محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) أن يُلخِّص رسالته بكلمة جامعة، قال: “بُعثت معلِّماً”، وفي هذا الإعلان الموجز يكمن جوهر الرِّسالة المحمديَّة؛ فالدَّعوة جاءت في ثوب التَّربيَّة العميقة التي تصوغ النُّفوس وتبني العقول. ولهذا لم يكن مستغربًا أن تسير التَّربيَّة جنبًا إلى جنب مع الدَّعوة منذ فجرها الأوَّل، وأن تكون ركيزة محوريَّة في مشروع الإسلام الحضاري.

لقد كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) -وهو خريج المدرسة الإلهيَّة الكبرى- أعظم معلِّم في تأريخ البشريَّة، فكان يزرع في القلوب حبَّ الحقِّ، ويربط بين المعرفة والعمل، ويجعل الكلمة نورًا يهدي، والموعظة دواءً يشفي. وبذلك غدا (صلَّى الله عليه وآله) المثل الأعلى لكلِّ من أراد أن يحمل رسالة التَّعليم والتَّربيَّة، والأسوة الحسنة التي ينبغي أن يستلهم منها المعلمون والدُّعاة طريقهم، فيحوّلوا التَّعليم من مهنة إلى رسالة، ومن حرفة إلى عبادة، ومن وظيفة إلى صناعة إنسان. وفي هذا السِّياق، قال الإمام علي (عليه السلام): “إنَّ رسولَ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) أدَّبهُ اللهُ عزَّ وجلَّ، وهو أدَّبني، وأنا أؤدبُ المؤمنينَ، وأورث الأدب المكرمينَ” وعن الإمام الصَّادق (عليه السلام): ” إِنَّ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلَّ) أَدَّبَ نَبِيَّهُ، فَأَحْسَنَ أَدَبَهُ، فَلَمَّا أَكْمَلَ لَهُ الْأَدَبَ، قَالَ: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ)، ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَ الدِّينِ وَالْأُمَّةِ لِيَسُوسَ عِبَادَهُ” .

إنَّ التَّأمل في السِّيرة العمليَّة لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، والوقوف عند أساليبه التَّربويَّة التي طبَّقها في بناء الأمَّة، يكشف لنا عن أعظم ثروة تربويَّة عرفها التَّأريخ؛ فقد انتقل بأصحابه من ظلمات الجهل إلى نور العلم والمعرفة، وحوَّل خشونة طباعهم إلى رقَّة وأدب، وبدَّل فيهم نزعة الأنانيَّة الجامحة بروح الإنسانيَّة الرَّحيمة، واقتلع من قلوبهم رواسب الجبروت القبلي والعصبيَّة العمياء ليغرس مكانها أخوَّة في الله (تعالى). ولم يقتصر أثره على إصلاح حاضرهم؛ بل جعلهم قادرين على صناعة الحاضر وبناء المستقبل معًا، حتَّى تحوَّلوا إلى حَمَلة رسالة وعُمَّار حضارة.

وهذا الاستعراض لمسيرة النَّبي محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) يؤكِّد بوضوح أنَّه المربِّي الأوَّل، والمعلِّم الأعظم للأجيال، وأنَّ بصماته التَّربويَّة كانت حياة متجسِّدة في أقواله وأفعاله وتوجيهاته. وكلُّ من تأثَّر به وجد فكره يتغيَّر، وعاطفته تتطهَّر، وسلوكه يتسامى إلى مدارج الكمال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى