ممر ترامب القوقازي.. تهديد لروسيا وإيران والصين

بقلم: جمال واكيم..
في تطور سياسي وجيوسياسي لافت، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عمّا وصفه بقمة السلام التأريخية بين أرمينيا وأذربيجان، لتتوّج جهوداً دبلوماسية مكثفة استهدفت إنهاء عقود من النزاعات المسلحة بين البلدين، خصوصاً فيما يتعلق بإقليم ناغورنو كاراباخ – ارتساخ.
هذا يشكّل نصراً استراتيجياً بالنسبة إلى واشنطن لجهة تعزيز نفوذها في منطقة جنوب القوقاز على حساب النفوذ التقليدي لروسيا في هذه المنطقة، خصوصاً بعد إعادة تموضع أرمينيا، الحليف التقليدي لروسيا، وذلك باصطفاف رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان بعيداً عن موسكو وطهران وإلى جانب واشنطن وأنقرة، إضافة إلى طعن أذربيجان لروسيا في الظهر وانتقالها بالكامل إلى صف واشنطن، علماً أن باكو ترتبط بعلاقات وطيدة مع أنقرة.
وفي أعقاب إعلان الاتفاق، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن الولايات المتحدة نجحت في تحقيق السلام بعد عقود من النزاع، وأن شركات أمريكية ستستثمر مبالغ ضخمة في أرمينيا وأذربيجان، ما سينعكس إيجاباً على اقتصادهما. وأشاد بجهود وزير خارجيته ماركو روبيو ومسؤولين آخرين في إنجاز الاتفاق، مؤكداً، أن واشنطن قضت على القدرات النووية الإيرانية، محذراً طهران من إعادة البناء.
من جانبه، وصف الرئيس الأذري الاتفاق بأنه “حدث تأريخي” يمهد لشراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة، أما الرئيس الأرميني ورئيس وزرائه، فأكدا أن الاتفاق يؤسس لمرحلة جديدة في تأريخ العلاقات بين البلدين.
تهديد الأمن القومي الروسي
وتعود جذور النزاع الأرميني-الأذري على إقليم ناغورنو كاراباخ إلى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، حين تحوّلت التوترات العرقية إلى حرب مفتوحة بينهما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، حيث سعى الإقليم ذو الغالبية الأرمنية للانفصال عن أذربيجان والانضمام إلى أرمينيا. وقد انتهت الحرب الأولى في التسعينيات بسيطرة الأرمن على الإقليم، من دون اعتراف دولي، لتبقى حالة اللا سلم واللا حرب سائدة لعقود.
وقد جاءت دعوة ترامب إلى كل من رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان والرئيس الأذري إلهام علييف إلى البيت الأبيض لتوقيع اتفاق سلام رسمي، جاءت كإشارة إلى انتقال الملف إلى الرعاية الأمريكية المباشرة، مقرونة بخطط اقتصادية لإحياء ممرات النقل المغلقة منذ التسعينيات، فأحد أهم بنود الاتفاق يتمثل في إنشاء ممر زنغزور الذي سيربط أذربيجان بإقليم ناخيتشيفان عبر الأراضي الأرمينية بما يفصل إيران عن أرمينيا، وبالتالي عن القدرة على التواصل البري مع روسيا.
ويتضمن الممر إنشاء سكك حديدية وخطوط أنابيب نفط وغاز وكابلات ألياف بصرية، ليحوّل جنوب القوقاز إلى شريان حيوي للتجارة والطاقة بين أوروبا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى بما يعزل روسيا كلياً. وبموجب الاتفاق ستحصل واشنطن على حقوق تطوير الممر عبر شركات خاصة، في مشروع أطلق عليه رمزياً “طريق ترامب للسلام والازدهار الدولي”. لكن البعد الحقيقي للمشروع يتجاوز الاقتصاد، إذ يمنح الولايات المتحدة، نفوذاً مادياً في منطقة طالما كانت تحت الهيمنة الروسية، ويكسر احتكار موسكو لطرق العبور في الفضاء السوفياتي السابق.
وتمثل منطقة جنوب القوقاز بالنسبة إلى روسيا خط دفاع متقدماً عن حدودها الجنوبية، وممراً أساسياً لأنابيب الطاقة. وقد شكل وجود القاعدة الروسية في “غيومري” بأرمينيا عاملاً محورياً في الاستراتيجية الروسية في المنطقة، إلا أن انشغال موسكو في حرب أوكرانيا أثر سلباً في قدرتها على التحكم بالمشهد في القوقاز، وهو ما تحاول واشنطن استغلاله لتعزيز حضورها لدى يريفان وباكو. وسيتيح الممر الجديد لواشنطن القدرة على الالتفاف على الأراضي الروسية، ويقلص قدرة موسكو على التحكم في تدفقات الطاقة، ويضعف أدواتها في التكامل الاقتصادي عبر الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.
تهديد وجودي لإيران
لا يقتصر خطر ممر زنغزور وما يحصل في القوقاز على روسيا، إذ إنه يشكّل أيضاً تهديداً لإيران. وعلى الرغم من التصريحات الإيرانية التي حاولت التعبير عن ثقة بالنفس واطمئنان لما يجري إلا أن الواقع يفيد بغير ذلك.
فقد أعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أنه سيتواصل مع وزير الخارجية الأرميني لمناقشة موضوع ممر زنغزور، معرباً عن ترحيبه بأي اتفاق سلم بين أذربيجان وأرمينيا.
أما الرئيس الإيراني مسعود بزشيكيان، فأعلن أنه “تمت مراعاة جميع مطالب إيران بشأن ممر زنغزور بما في ذلك وحدة الأراضي وعدم إغلاق الطريق نحو أوروبا”، لكن نائب القائد السياسي لحرس الثورة الإيراني كان أكثر صراحة حين أعلن أن حلم الولايات المتحدة بالوجود على الحدود الشمالية لإيران لن يتحقق.
ويشكل تعزيز الحضور الأمريكي في منطقة القوقاز، بالتوازي مع وجود قواعد أطلسية وإسرائيلية في أذربيجان، خطراً كبيراً للأمن القومي الإيراني.
ويهدد ممر زنغزور بفصل إيران جغرافيا عن أرمينيا، وبالتالي فإنه يهدد بفقدانها القدرة على التواصل مع روسيا وأوروبا، ما يحرمها من عائدات اقتصادية ويقلص من أهميتها كممر تجاري بين آسيا الوسطى والقوقاز وتركيا.
بالنسبة إلى روسيا، تمثل المنطقة عمقاً استراتيجياً، وللصين فهي قلب مبادرة “الحزام والطريق” البرية. ومن هذه المنطقة يمكن لواشنطن أن تطلق أعمالاً عدائية تهدف إلى ضرب الاستقرار في منطقة سيبيريا الروسية ومنطقة جينجيانغ الصينية ومنطقة خراسان الشرقية الإيرانية.
قد يشكل الاتفاق نهاية لعقود من الصراعات في المنطقة يمكن أن يفتح آفاقاً للتكامل الاقتصادي في جنوب القوقاز، لكنه في جوهره يعكس أيضاً إعادة تموضع استراتيجي أمريكي، يستهدف الضغط على روسيا، وتوسيع نفوذ “الناتو” عبر تركيا، ومواجهة إيران، وتهيئة منصة للانطلاق نحو آسيا الوسطى.
وبالتالي، فإن ممر زنغزور أو طريق ترامب، ليس مجرد ممر للتجارة، بل هو مسار في لعبة الأمم، حيث السلام جزء من معادلة أوسع لصراع القوى الكبرى.
في هذا الإطار، يجب انتظار رد الفعل الروسي، وأيضاً الإيراني تجاه ما يحدث، من دون استبعاد إمكانية تدخل صيني لعرقلة المخططات الأمريكية.



