انتصار معركة الخندق.. وسام خاص بالإمام علي (ع)

الشيخ الحسين أحمد كريمو..
مقدمة عسكرية
قالوا: إن “الحروب والمعارك قطار الحضارات”، لأنه ما من حضارة انطلقت أو نمت وترعرعت إلا بعد سلسلة من المعارك والحروب الطاحنة، وذلك لأن الشعوب والأمم تبدع في الحروب بالصناعات الحربية وبعد السلم تعززها وتحولها وتطورها إلى صناعات مدنية ثم تتقدم الشعوب وتتطور وتبني حضارتها، لأن الأمة أو الشعب في الحرب بحاجة إلى صناعات تحميه أولاً ثم تؤثِّر على عدوِّه ثانياً، فهو يسعى للانتصار بأية طريقة ووسيلة، لأن المنتصر يفرض نفسه وشروطه على المنكسر أو المنهزم وهذا التأريخ ببابك يشهد على ذلك بل الواقع لا يخلو من شهادات حية على هذا الكلام.
ولكن هناك معارك حضارية قيمية يصنع فيها القادة والسادة الأبطال والشجعان، وهي من الصناعات النفسية والمعنوية، وهؤلاء لهم تأثير ربما يفوق أو لا يقل عن التأثير للمادة والسلاح في أرض المعركة، لأن الجيوش تخوض عادة معارك عدة في الوقت نفسه ولكل معركة سلاحها وأسلوبها وطريقتها ومنهجها وأهمها:
أولاً: المعركة الخشنة بالسلاح المتوفر.
ثانياً: المعركة الناعمة النفسية والمعنوية بالطريقة المناسبة.
ومن المعارك الحضارية في التأريخ الإسلامي التي كانت مفصلاً في التأريخ كله هي معركة الأحزاب التي تمرُّ علينا ذكرى معركة فاصلة بين الإسلام وجيشه، بل الإيمان وشخصه، وبين الكفر والشرك وجيوشه -الأحزاب- التي جيَّشوها لاستئصال الإسلام ورسوله الكريم في شوال من العام الخامس للهجرة النبوية الشريفة، فما قصتها وكيف حقق المسلمون النصر المؤزر فيها رقم التباين الكبير بين الجيشين في العدد والعدة؟.
معركة الأحزاب (الخندق)
من الأخطاء الشائعة التي توارثتها الأمة الإسلامية من الحقبة الأموية السوداء وحكمها الظالم العضوض ما اصطلحوا عليه مما يسمونه (الغزوات)، وهي معارك دفاعية وليست غزوات نبوية، إذ أنهم اصطلحوا على أن الغزوة هي المعركة التي يقودها النبي، وأما السَّرية فهي التي يقودها أحد الصحابة، وذلك لأن من عادة العرب الغزو لبعضهم البعض، والغزو هو الهجوم المفاجئ والمباغت لقوم آخرين وهم نائمون أو غارُّون في حياتهم، وهي ذات ظلال سوداء وسمعة في غاية السوء في الثقافة والفكر العربي الجاهلي، فأطلق المؤرخون الأوائل على تلك الحروب والمعارك بـ(الغزوات)، والنبي الأكرم لم يغزُ أحداً أبداً بل كانت قريش وأحلافها يغزون النبي والمسلمين في يثرب وهم يردون الغزو عليهم وأكبر دليل على ذلك، أن معركة أحد والخندق أو الأحزاب فقد جرتا على أبواب وأطراف المدينة المنورة، لا سيما معركة الأحزاب فهي كانت سيلاً من الجيوش الجرارة جيَّشها وقادها أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية ليستأصل المسلمين عن بكرة أبيهم، فجاءت الخطة الإلهية وظهرت على لسان الصحابي الكبير سلمان الفارسي الذي كان قد التحق جديداً بالمسلمين فاقترح على النبي الأكرم بأن يحفروا خندقاً يوقفون الهجوم القرشي المعادي عليهم به.
وعندما وصلت تلك الجيوش ووقفت خلف الخندق في معركة الأحزاب وحاصرت المسلمين في المدينة، هناك زلزل الصحابة جميعاً زلزالاً عظيماً وابتلوا بلاءً شديداً لا سيما أولئك الذين ليس لهم حظ ولا نصيب بالحرب والقتال والشهامة والشجاعة، فراحوا يتَّهمون رسول الله (ص) تارة بل يتَّهمون الله سبحانه الذي وضعهم في هذا الموقف الصعب الحرج في مقابل أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية وحامل رايته معاوية بن هند الهنود، ولكن الله سبحانه أراد أن يحكم عليهم الحلقة في الامتحان والبلاء حتى يعلم مدى إيمانهم وصبرهم في سبيل الله، فهيَّأ لفارس العرب المغوار الذي يعدُّ بألف فارس وهو عمرو بن عبد ود العامري، وبعض رجاله أن يهمزوا خيولهم فيجتازون الخندق ليصيروا في جانب المسلمين وجهاً لوجه وطلب المبارزة وثلاثة آلاف منهم يقفون واجمين وكأن على رؤوسهم الطير -كما يقول العرب بأمثالهم- بل كأن ملك الموت عزرائيل (ع) هو الذي برز وتحداهم جميعاً فلم ينبث أحد منهم ببنت شفَّة وكأنهم ليسوا برجال أمام رجل يتجاوز عمره التسعين.. والعجيب أن رسول الله (ص) قام خطيباً فيهم وراح يُشجِّعهم على مبارزة هذا الرجل، ويقول ثلاث مرات لهم: (أيكم يبرز إلى عمرو وأضمن له على الله الجنة)؟! وفي كل مرة لا يقوم إلا علي (عليه السلام) والقوم ناكسو رؤوسهم ولا أحد منهم يرفع رأسه.
هذه هي مبارزة النَّصر الحاسمة التي قال فيها رسول الله (ص): (إنا نغزوهم ولا يغزونا)، أي أن هذه المبارزة قطعت أرجل المشركين وطغاة العرب القرشيين وأحلافهم وأجلافهم عن المسلمين، وبالفعل بعد تلك المعركة الفاصلة كان رسول الله (ص) هو الذي يفرض أمره وقراره عليهم وكانوا يترجَّونه لا سيما بعد أن أجلى اليهود جميعاً من الجزيرة العربية وفتح مكة فصارت الدنيا أمامه أبواباً مفتحة لدخول النور والهداية، ولذا قال رسول الله (ص) عن تلك المبارزة: (بَرَزَ اَلْإِيمَانُ كُلُّهُ إِلَى اَلشِّرْكِ كُلِّهِ)، وكذلك قال الله تعالى عنها يمنُّ بها على المسلمين جميعاً إلى يوم القيامة: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ -بِعَلِيٍّ- وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا)، فكان عبد الله بن مسعود يقول: هكذا نزلت، بل وأثبتها في مصحفه، على ما رواه الحسكاني صاحب (شواهد التنزيل)، والسيوطي في (الدُّر المنثور) وغيرهما.
وإذا كانت ضربة واحدة من أمير المؤمنين الإمام علي (ع) في يوم الخندق عدا عن جهاده كله في كل المعارك والحروب، أفضل من عمل الأمة إلى يوم القيامة، أو تعدل عبادة الثقلين الإنس والجن إلى قيام الساعة، فكيف يقدِّمون عليه الصحابة، ويقولون: إن فلاناً وعلاناً أفضل وضربة من ضرباته فقط خير منهما ومن أعمالهما والأمة بل والثقلين إلى يوم القيامة؟ فكيف يقدِّمون عليه غيره ممَّن ليس لهم ذكر مشهور ولا عمل في الحروب مذكور؟ فما لكم كيف تحكمون؟ ولماذا تشنِّعون علينا إذا قلنا بأنه -روحي فداه- أفضل من الأنبياء والرسل والأولياء جميعاً وضربته في يوم الخندق أفضل أو خير من عملهم كله فكيف بأعماله كلها التي كانت لله وفي سبيل الله؟.