لقاء السعودية بداية نهاية الناتو

بقلم: سمير البرغوثي..
الحروب الوحيدة الذي خاضها النانو وانتصر فيها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية كانت حصرا في ليبيا ويوغسلافيا في حين انهزم في افغانستان اما في العراق فكانت حرب امريكية بريطانية بمشاركة خفيفة من بعض الدول الاعضاء بصفتها الفردية والخصوم الذين واجههم هم بدرجة كبيرة من ضعف الامكانيات العسكرية بالمقارنة مع امكانياته الجبارة.
الحرب الوحيدة التي خاضها مع قوة عظمى هي تلك الدائرة في اوكرانيا. واهم من يعتقد ان من يحارب هو اوكرانيا زيلينسكي فالتمويل الهائل والتسليح الضخم والتخطيط والقيادة والاقمار الصناعية والمعلومات العسكرية الاستخبارية تدار من مقرات الناتو في اوروبا والولايات المتحدة، والنتيجة ان بوتين وبعد 3 سنوات من الحصار والمقاطعة والعقوبات يسير نحو الانتصار. وحتى لو نفذ بعض القادة الاوروبيون ومعهم من يشاطرهم الرأي في واشنطن افكارهم بإرسال قوات الى اوكرانيا ستكون النتيجة ليست هزيمة روسيا بل فناء العالم واولهم الدول الاوروبية.
ليس هوس ترامب باسترجاع اموال امريكا التي انفقتها على اوكرانيا فحسب ما دفعه لإرسال فريقه الى السعودية للاجتماع مع الروس بل قناعة اركان ادارته بان النصر على بوتين غير وارد وانهيار روسيا اضغان احلام ولربما هذه القناعة كانت لدى ادارة بايدن السابقة التي اطلعت زيلينسكي فوق الشجرة ولكنها كانت تكابر.
الخطاب القاسي الذي وجهه نائب ترامب للدول الاوروبية في ميونخ والتعامل الفظ من قبل ادارة ترامب مع هذه الدول ليست لحظة غضب بقدر ما تعكس تحولات استراتيجية بعيدة المدى والرسالة المبطنة الصادرة للأوروبيين من البيت الابيض ملخصها “فكوا عنا لا نستطيع حملكم على أكتافنا ونحن ذاهبون لخوض صراع مرير مع الصين” امنكم وامن اوروبا امر يخصكم ولا يخص دافع الضرائب الامريكي. وعندما جرى سؤال ترامب في احد المؤتمرات الصحافية عن امكانية سحب الجنود الامريكيين من اوروبا اجاب ان احدا لم يطرح الموضوع ولم يناقش والجواب في ذاته لا يتضمن النفي.
الطغمة الرأسمالية الحاكمة في الولايات المتحدة باتت تدرك ان أميركا لم تعد قادرة على تمويل نفقات زعامة العالم فالبنية التحتية والادارية باتت متهالكة والدين العام تجاوز 130% من الناتج القومي والعجز في الميزان التجاري يتجاوز تريليون واضطرت العام الماضي لتغطية عجز الانفاق الحكومي المقدر ب 1.1 تريليون عبر رفع سقف الدين. هذا والنظام الصحي ونظام التعليم والضمان الاجتماعي هو الاكثر تخلفا بالمقارنة مع الدول المتطورة الاخرى التي تنفق واشنطن المليارات لحمايتها. وبهذا الوضع المتردي لا يوجد لديها “همة” لمجاراة ومنافسة الصين ذلك الهدف الاستراتيجي المركزي التي تضعه نصب عينيها.
وعندما تضع ادارة ترامب علاقتها مع روسيا من جهة وعلاقتها مع اوروبا من جهة اخرى في كفتي ميزان حتما سترجح كفة الاولى فروسيا دولة قوية ومنتصرة لديها كم هائل من المصادر الطبيعية ومصادر الطاقة الرخيصة التي يحتاجها ترامب لعملية اعادة التصنيع الضخمة في الداخل الذي يسعى لها وروسيا لا تنافس امريكا اقتصاديا ولا يوجد لديها فائض تجاري يذكر معها وامنها لا يشكل عبئا على الولايات المتحدة ولا تهددها عسكريا ما لم “تتحركش” واشنطن بها اضافة الى امتلاكها ورقة في غاية الاهمية الا وهي اضعاف الصين امام الولايات المتحدة اذا ما قرر بوتين فك التحالف الاستراتيجي الواسع مع بكين .
على الكفة الاخرى من الميزان يشكل امن اوروبا ومنذ الحرب العالمية الثانية عبئا على الخزينة الامريكية في حين تسجل واشنطن خسارة تجارية بقيمة 300 مليار دولار سنويا مع اوروبا بمعنى اخر تنفق امريكا من جيبها الخاص لديمومة خسارتها وهذا ما يؤرق شخص مغرم بحساب الاموال كترامب الذي لا تعني له شيئا مقولات الشراكة على ضفتي الاطلسي وحماية الديموقراطية العريقة والحضارة الغربية وحقوق الانسان والحفاظ على البيئة والمناخ.
ادارة ترامب وهي تتفاخر بالتفكير خارج الصندوق قد صاغت اولوياتها ففي الداخل ترى في خفض الدين العام والانفاق الحكومي والعجز التجاري وتحويل امريكا من اكبر مستهلك (ثلث الاستهلاك العالمي في الولايات المتحدة) الى اقتصاد منتج بالاضافة الى تقليم اظافر الدولة العميقة والهجرة اولويات لا يمكن التساهل معها والتأخر عنها ومواجهتها لا يتطلب حلف ناتو بل سياسات مالية وجمركية وادارية ثورية.
وعلى الصعيد الخارجي هناك بؤرتين ذات اهمية فائقة لواشنطن اولهما جنوب شرق اسيا المركز المالي والتجاري والتكنولوجي الصاعد حيث توجد الصين العدو اللدود لواشنطن وامن هذه المنطقة تتكفل به واشنطن لوحدها بعدد كبير من القواعد العسكرية والشراكات ولديها الاستعداد لتعزيز التواجد لحصار الصين ما دام هناك دول تتكفل بالنفقات كاليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والفلبين وغيرها وهي ليست بحاجة الى ناتو. والبؤرة الاخرى هي الشرق الاوسط حيث هناك يتم تدوير عوائد مبيعات الطاقة لتضخ في الولايات المتحدة على شكل استثمارات واوراق خزينة وسندات وشراء اسلحة وتكنولوجيا وفي الشرق الاوسط يجري تعزيز الدولار كعملة مهيمنة من خلال ربط تجارة الطاقة به.
في الشرق الاوسط تملك الولايات المتحدة شبكة واسعة من القواعد العسكرية اضافة الى اقوى قاعدة لها وهي اسرائيل وجاري العمل على التشبيك بين البلدان التي تحتوي على هذه القواعد والقاعدة الأقوى لتشديد القبضة ولدى واشنطن الرغبة والاستعداد والقدرة على تعزيز منظومة الامن لوحدها ما دام هناك من سيدفع وحتما هي ليست بحاجة الى ناتو ايضا.
الناتو كان احد افرازات الحرب الباردة اعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية ومهمته الدفاع عن الرأسمالية الغربية في مواجهة الاتحاد السوفيتي الذي كان يسعى للقضاء على الرأسمالية العالمية وتشييد الاشتراكية العالمية عوضا عنها الان الاتحاد السوفيتي لم يعد موجودا ووريثته روسيا كما هي الصين ايضا تتبنى النظام الرأسمالي في الانتاج وتحترم قوانين السوق تماما كالدول الغربية وان كان هناك فارق بسيط بشأن درجة تدخل الدولة في الاقتصاد.
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي استخدمت الولايات المتحدة الناتو كأداة لتعزيز زعامتها المطلقة على العالم، ولكنها اكتشفت ان هذه الاداة الجبارة المكلفة لم تنجز على مدار 34 عاما من انهيار الاتحاد السوفيتي سوى قتل القذافي واغتصابه في ليبيا وتسليم الزعيم الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش الى محكمة الجنايات الدولية بالمقابل فشلت فشلا ذريعا في اول مواجهة حقيقية مع روسيا في اوكرانيا وان كانت المواجهة غير مباشرة.
الترامبية تفهم من شعار امريكا القوية والعظمى هو قياس اي شيء وفقا لمبدأ الربح والخسارة لا تستهويها شعارات وحدة الحضارة والثقافة الغربية والديموقراطية العريقة وحقوق الانسان كيف لا وهي تطمح الى وضع بصمات ديكتاتورية على ادارة اميركا وتشدد من قبضة الطغمة المالية ونخبة رجال الاعمال على هذه الادارة وهي تعمل وفق المبدأ القائل “الشريك المخسر بلا منه حتى لو كان من عظام الرقبة”.
لا استطيع ان اجزم بالشكل الذي سينتهي به الناتو ولكن اتنبأ ان يبدأ بخروج الولايات المتحدة منه يليها البلدان الاعضاء غير الاوروبيين لتبقى اوروبا ويتحول الى قوة اوروبية للاتحاد الاوروبي كما يطالب ماكرون وشولتس.