اخر الأخباراوراق المراقب

مواصفات الآداب الرفيعة

محمد علي جواد تقي..

كلما اتسعت مساحة منظومة الآداب في حياة الناس، ضمنت لهم النمو والتقدم، ثم الاستقرار النفسي والسمو الروحي، عندما يسود الاحترام بين الطالب ومعلمه، وبين الابناء والوالدين، وبين المسؤولين في الدولة والمواطنين.

كما هي الأخلاق؛ فإن الآداب لها تعريفات عدّة حسب القراءة الاجتماعية والأخرى الدينية لها، تلتقي في معناها الإيجابي المُحبب للنفوس مما جعله عنواناً للشخصية المتميزة، والتوازن في العلاقات الاجتماعية من خلال منظومة آداب، على أنها تتميز عن الأخلاق في أثرها الدائم على الواقع الخارجي، بينما الأخلاق تعني بالدرجة الأولى بالمكنونات الداخلية، فالآداب؛ عبارة عن منظومة سلوكية، بينما الأخلاق تمثل منظومة ثقافية يحملها الانسان في نفسه و روحه، فهو صادق، وأمين، ومتسامح، وغيرها من الخصال، بيد أن صاحبها يسير في الشارع الى جانب الكاذب والخائن والمنافق دون أن يميزه الناس بشيء في مظهره أو وجهه، إلا اذا حصل حادث سير في الشارع –مثلاً- حينئذ سيتعرف الناس إلى وجود صاحب الخلق الرفيع من عدمه، بينما صاحب الأدب الرفيع هو من يفشي السلام على الصغير والكبير، أو يغضّ بصره عن النساء المحارم في منطقته السكنية، أو لا يرفع صوته ولا يقاطع مُحدّثه، وما الى ذلك.

الآداب عابرة للفوارق بين البشر

هي لا تحتاج الى أرضية للنمو لتتحول الى ملكات نفسية مثل الأخلاق، بقدر ما تحتاج الى نفسية تحتضن هذه المنظومة كلها مرة واحدة من خلال ارتباطها المباشر بالإيمان، مما يجعلها مثل ماء المطر ينهمر على الجميع دون استثناء، فعندما يوصي أمير المؤمنين واليه على مصر، مالك الأشتر، بأن “الناس صنفان؛ إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”، يعطيه درساً بليغاً ورائعاً في “الأدب الاسلامي”، ويعني؛ أنه إذا أراد حاكم مصر من قبل أمير المؤمنين السير في الاسواق والاماكن العامة افتراضاً لأنه لم يتحقق له ذلك، رضوان الله عليه-، عليه أن يشمل غير المسلم في أداء التحية والسلام عليه، وأن يعمّ الجميع بالاحترام والمساعدة والودّ لأنه يعيش في كنف الدولة الاسلامية.

وحتى اليوم، فإن أهم عنوان لشخصية المسلم في العالم؛ آدابه الحسنة والسامية في التعامل مع الآخرين، لاسيما في التعامل مع الجيران، في أداء السلام والتحية على الجار غير المسلم، او تقديم طبق من الطعام الموجود على مائدة العائلة، او مراعاة ظروفه في المُلمّات والأحزان، وما الى ذلك من مشاهد الحياة اليومية.

وهي نفسها التي كان لها الفضل بانتشار الإسلام في أقاصي الأرض بنسبة كبيرة، الى جانب العوامل الأخرى، كما يذكر العلماء والمؤرخون عن سر انتشار الاسلام في الشرق الأقصى، وفي أفريقيا في القرون الاولى من تأريخ الحضارة الاسلامية.

الحفاظ على أصالة الآداب

بما أنها هوية للسلوك الفردي والجماعي، فإنها معرضة للانحراف عن طريقها القويم وغاياتها النبيلة، وليس بالضرورة أن تكون آدابا حسنة على طول الخط، فبدلاً من أن تكون عاملا لنشر المحبة والمودة والاحترام المتبادل، تكون أحياناً عنواناً للتمييز الطبقي، وسبباً لتمزيق العلاقات الاجتماعية، عندما تصنع فئة من الناس آداباً خاصة لها في محافل ومناسبات معينة مثل؛ الأعراس، أو عقد مهرجانات جماهيرية، فمن يحضر عليه الالتزام بـ “أتيكت” خاص من ملابس معينة، واذا أراد الجلوس عليه تجنب الصفوف الامامية او صدر المجلس لأنه خاصٌ بـ “عِلية القوم”، و يلاحظ احياناً؛ حتى موائد الطعام تكون خاصة لفئة معينة، فيما تكون الموائد الأخرى (العادية) من نصيب عامة الناس.

واذا راجعنا رسالة أمير المؤمنين، عليه السلام، المدوية لعامله على البصرة؛ عثمان بن حُنيف، وهي تُعد من الخطب اللاهبة التي أثارت في نفس الإمام لواعجه وهمومه لمجرد أن هذا العامل (الوالي) دُعي الى مأدبة لأحد أعيان البصرة دون غيره من الناس، هذا فقط المأخذ الذي أخذه أمير المؤمنين على واليه، وليس شيئاً آخر: “أَمَّا بَعْدُ، يَابْنَ حُنَيْفٍ! فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إلى مَأْدُبَةٍ، فَأَسْرَعْـتَ إِلَيْهَا ، تُسْتَطَـابُ لَكَ الأَلْـوَانُ، وَتُنْقَلُ إِلَيْـكَ الجِفَانُ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلى طَعَامِ قَوْمٍ، عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ، وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ”، فهو لم يسرق، ولم يخُن الأمانة، ولم يقصّر في عمله، مع كونه من خلّص أصحاب أمير المؤمنين، وأكثر إخلاصاً ووفاءً، وهو الذي تصدّى للناكثين من أصحاب الجمل، ووقف بوجههم رافضاً إعطاء مفاتيح خزانة الاموال اليهم، فاعتقلوه وعذبوه بنتف شعر لحيته وجفون عينيه –كما يروي التأريخ- ثم قتلوه بشكل بشع.

هكذا انسان، بهذه المنزلة يتلقى لوماً وتقريعاً شديداً من أمير المؤمنين، ربما لقربه منه، واستكثاراً عليه احترامه آداب الاغنياء وأصحاب الجاه والمناصب، وتجاهله الشريحة الفقيرة، من المجتمع البَصَري آنذاك، بأن يذهب الى مأدبة “عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ، وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوّ”، يعني الناس العاديين معرضون للجفاء والتهميش، بينما الاغنياء مرحب بهم.

وفي مناسبة أخرى يعلمنا أمير المؤمنين كيف تكون هوية وصفة الآداب الحقيقية عندما سمع بشخص لبس الخشن واعتزل أهله ظنّاً منه أنه يقتدي به، عليه السلام، في جشوبة الطعام وخشونة الملبس –كما قال- فنهره أمير المؤمنين بشدة قائلاً: “ويحك! إنّ اللَّه -عزّ وجلّ- فرضَ على أئمّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أنفُسَهُم بِضَعَفةِ النّاس کَيلا يَتَبَيَّغَ (يهيج) بالفَقيرِ فَقْرُهُ”.

كثيرة هي العادات التي تحولت الى “آداب مقدسة” في مناسبات عديدة، كأن يرتدي الرجال ربطة العنق في حفلات الأعراس او المجالس الخاصة، أو تقديم الهدايا الباهضة الثمن بدعوى احترام الطرف المقابل في حفلة زواجه، أو ملء الموائد بكميات مهولة من الاطعمة واللحوم لتلبية رغبة المدعوِّين.

بالمقابل لا نجد أن الآداب المصطنعة نفعت الناس بشيء سوى تحمّل تكاليف المظاهر الباذخة من أجل سواد عيون هذا أو ذاك، وربما الالتزام المشدد بهذا اللون من الآداب من شأنه خلق مشاجرات داخل البيوت –وليس خارجها هذه المرة- بسبب المطالبات لشراء هذا النوع من الملابس، او إقامة تلك المأدبة الفاخرة، او استخدام تلك السيارة الفارهة مراعاة لمشاعر البعض!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى