اراء

أمريكا وازدواجية المعايير.. كيف تحوّلت “أوكرنافتا” إلى نموذج للنجاح؟

بقلم: السيد شبل..

من أغرب مفارقات السياسة الدولية اليوم، أن الولايات المتحدة، التي لا تكفّ عن الضغط على دول العالم الثالث لإجبارها على الخصخصة، وتقليص دور الدولة، وفتح الأسواق بلا قيود أمام الشركات الأجنبية، أصبحت تحتفي الآن بتجربة تأميم شركة نفطية في أوكرانيا وتصفها بـ”النموذج العالمي“!.

هذه ليست مزحة ولا سخرية سياسية، بل هو واقع تؤكده تقارير المؤسسات الأمريكية نفسها ومراكز الأبحاث الأوروبية، بل حتى البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية.

القصة ليست تقنية ولا اقتصادية فحسب؛ بل هي نموذج صارخ لكيفية تحكم السياسة الأمريكية في تعريف “النجاح” و”الفشل”، وكيف يُصبح التأميم جيداً ومُرحباً به عندما يُعيد توزيع المكاسب لمصلحة الغرب، فيما يُصبح “اشتراكية” و”فساداً” و”تهديداً للديمقراطية” عندما يَمسّ مصالحهم أو مصالح الشركات متعددة الجنسيات.

أوكرنافتا.. شركة النفط التي فجّرت التناقض

شركة “أوكرنافتا” تُعدّ أكبر منتج للنفط والوقود داخل أوكرانيا، وكانت ملكيتها منذ التسعينيات موزّعة بين:

56% للحكومة.

تقريباً 44% لرجل الأعمال الأوكراني-الإسرائيلي إيهور كولومويسكي عبر مجموعة “بريفات”.

كولومويسكي، الذي كان يتحكم في أوكرنافتا، منذ منتصف التسعينيات، هو أحد أشهر رجال الأوليغاركية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وأحد المستفيدين من موجة الخصخصة المفترسة التي جعلت ثروات الدولة تنتقل إلى قلة مالية ضيقة. وقد تم تصنيفه كثاني أغنى رجل في أوكرانيا عام 2010، لكن، وكما العادة، فإن الرجل لم يكن مجرد ملياردير، بل كان لاعباً سياسياً مهماً، ويمكن تلخيص مسيرته آخر عشر سنوات في النقاط الستّ التالية:

١ دعم الثورة الملونة 2014 ضد الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، وحزبه الموالي لروسيا.

٢ قام بتمويل جماعات يمينية متطرفة مثل كتيبة آزوف لمواجهة المجموعات الأوكرانية في المناطق الشرقية، والتي تدعم التعاون مع موسكو.

٣ شغل منصب حاكم منطقة دنيبروبيتروفسك من عام 2014 حتى عام 2016.

٤ هاجم مراراً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ودعم التحالف مع واشنطن وعواصم غرب أوروبا.

٥ دخل في صِدام مع الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو عام 2016 للسيطرة على مشغل خط أنابيب النفط المملوك للدولة. ومع تصاعد الأمور بين الرجلين، تمت إقالة كولومويسكي من منصبه، كما أُعلن أن البنك المملوك لمجموعته المالية، والذي يعاني نقص رأس المال الذي يشكل تهديداً للأمن المالي لأوكرانيا، وبالتالي نُقلت ملكيته إلى الدولة عام 2016.

حتى تلك اللحظة، كان كولومويسكي في نظر القطاعات الأوسع من الشعب الأوكراني ثرياً يحكم من خلف الستار، ويستخدم السلاح ولغة العصابات لترهيب خصومه، كما أنه يتهرّب من دفع الضرائب، ويسخّر موارد الدولة لخدمة مصالحهم الشخصية، ويقوم بغسل الأموال الناتجة من تلك الأعمال خارج البلاد. في المقابل، لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية ترى في كولومويسكي “فاسداً” أو “خطراً على الديمقراطية”. على العكس، كان هناك صمت كامل، لكن كل شيء تغيّر مع نهايات عام 2019.

فجأة، بدأ كولومويسكي يبتعد عن النغمة الأمريكية، وأبدى موقفاً أكثر إيجابية تُجاه روسيا، مدفوعاً بخيبة أمله من الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة، فاقترح الاستفادة من التمويل الروسي بدل الاعتماد على القروض الغربية، واعتبر أن الصراع في منطقة الدونباس صراع “مدني داخلي، وليس عدواناً روسياً خارجياً”. وفي نيسان 2022، لم يصدر عنه موقف واضح يُدين غزو روسيا.

هنا، تغيّرت الرواية بالكامل، إذ تحوّلت الولايات المتحدة والسلطة الأوكرانية إلى عداء مفتوح تجاه الرجل. وبين ليلة وضحاها، فُتحت كل الملفات التي تدين كولومويسكي، والتي هي في الحقيقة امتداد للاتهامات التي وجهت إليه بواسطة السلطات الأوكرانية قبل عام 2014، ففساد الرجل كان معروفاً للجميع منذ 20 عاماً، لكن الملف لم يُفتح إلا عندما تغيّرت مواقفه السياسية، أو عندما قرر زيلينسكي الحدّ من قوة الأوليغارشيين وموازنة النفوذ وفرض سيطرته الشخصية على مؤسسات الدولة.

الغرب يحتفي بالتأميم لأنه يخدم مصالحه

الفارق أن الدول النامية -من مصر إلى الأرجنتين إلى باكستان- عندما تتحدث عن تأميم قطاعات استراتيجية، تُتهم بأنها مُعادية للسوق، وتُرهب المستثمرين، وتسحق القطاع الخاص، وتعمل ضد للتنمية. أما في أوكرانيا، فقد تحولت إلى نموذج عالمي.

بعد ثلاث سنوات من تأميم الشركة، بدأت مراكز الأبحاث الغربية مثل CEPA تنشر تقارير تقول إن التأميم “قصة نجاح”، وتتحدث عن نجاح الشركة في دفع 375 مليون دولار ضرائب دفعتها في سنة واحدة -أكثر من إجمالي ما دفعته خلال عشر سنوات، وعن ارتفاع مبيعات المحطات 20% في الربع الأول من 2025 رغم تراجع السوق، مع نمو في إنتاج النفط 5%، ونمو في إنتاج الغاز 1.7%.

وما حدث مع “أوكرنافتا” جزء من عملية أوسع تشمل:

أ- إعادة هيكلة القطاع العسكري بحيث يصبح معتمداً على التكنولوجيا الأمريكية.

ب- ربط قطاع الطاقة بالشركات الأمريكية والأوروبية.

ج – تحويل أوكرانيا إلى سوق مفتوحة للشركات الغربية بعد الحرب.

د- إقصاء الأوليغاركية التقليدية، لأنها قد تعيد بناء علاقات مع روسيا في المستقبل، إذ إنها تتحرك وفق مصالحها الخاصة.

هـ – تحويل الدولة الأوكرانية إلى نموذج اقتصادي قائم على “الحوكمة الغربية” – أي وفق رؤى المؤسسات الأمريكية والأوروبية.

ليست الأيديولوجيا بل المصالح

إذاً، القضية ليست “تأميماً” مقابل “خصخصة”، بل إن القضية هي: هل هذه الشركة تقع تحت نفوذ طرف يتماشى مع واشنطن أو لا؟ فالولايات المتحدة وصندوق النقد يفرضان على الدول الفقيرة بيع أصولها، وتقليل دور الدولة، ورفع الدعم، وإفساح المجال أمام الاستثمار الأجنبي، لكن الحكومة الأميركية نفسها تتدخل لإدارة الاقتصاد وتوجيهه حين يستدعي الأمر ذلك.

خلال الحرب العالمية الثانية، سيطرت الحكومة الأميركية عملياً على الاقتصاد، واستخدمت أسلوب التوجيه لضمان تعبئة الموارد للحرب، فقد أعطت الحكومة أوامر مباشرة للمصانع لإنتاج الأسلحة والطائرات والدبابات والذخائر، وأرغمت مؤسسات كبيرة مثل فورد وجنرال موتورز بالكامل على الإنتاج العسكري.

وهناك أمثلة أخرى لتدخل الدولة الأميركية في الاقتصاد من دون أي التفات إلى شعارات “دعه يعمل، دعه يمرّ”، فهناك إصرار ترامب على فرض تعريفات جمركية عالية جداً على المنتجات الصينية لحماية المُصنّعين الأميركيين، واستهداف شركات تكنولوجية محددة مثل هواوي، بدعوى الأمن القومي، وهناك أيضاً رفض جو بايدن بيع شركة “يو إس ستيل” الأميركية لـ”نيبون” الياباني، مؤكداً، أن “صناعة الصلب التي يملكها ويديرها أميركيون تمثل أولوية أساسية للأمن القومي”، وكان هذا قبل رحيله من منصبه بأسابيع معدودة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى