العلامات الأربع التي تصنع الإنسان الصالح والمجتمع المثالي

صباح الصافي..
من الخصائص المميِّزة للخطاب القرآني ولتعاليم أهل البيت (عليهم السلام)، وضوحه ودقَّته في تحديد المفاهيم وضبط المعايير، بما يجعل الإنسان قادرًا على الوقوف أمام حقيقة موقعه العقدي والأخلاقي؛ وعلى سبيل المثال، لو طرح الفرد على نفسه هذا السؤال: هل أنا مؤمن حقًّا أم لا؟.
لا يبقى سؤال معلَّق بلا جواب؛ بل يجد إجابته الموضوعيَّة حينما يرجع إلى القرآن الكريم وروايات المعصومين (صلوات الله عليهم). فالقرآن الكريم يبيِّن الإيمان، ويقدِّمه في صورة علامات وسلوكيات عمليَّة يمكن ملاحظتها وتقييمها؛ قال الله (تعالى): (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ).
إنَّ هذا العرض القرآني يرسم معايير دقيقة يمكن للإنسان أن يقيس بها واقعه: الخشوع في الصَّلاة باعتباره علامة عمق الصِّلة بالله (سبحانه)، والإعراض عن اللغو بوصفه رمزًا لانضباط الفكر واللسان، وأداء الزَّكاة بوصفه تجسيدًا لوظيفة التَّكافل الاجتماعي، ثمَّ حفظ الفرج تعبيرًا عن عفَّة السُّلوك وصيانة الكرامة الإنسانيَّة، وبهذا تصبح مسألة الإيمان تجربة تُختبر في الميدان العملي، حين تظهر القيم في أفعال ملموسة.
إنَّ هذه العلامات الأربع تمثِّل، أركانًا محوريَّة للبعد الأخلاقي والاجتماعي في شخصيَّة المؤمن؛ فالوجه المنبسط يشير إلى إشراقة الرُّوح التي تنعكس على السُّلوك الاجتماعي، فيبعث البهجة والطَّمأنينة في نفوس الآخرين، وأمَّا اللسان اللطيف فهو مظهر لحكمة الخطاب ورقَّة التَّعامل؛ إذ يصبح الكلام وسيلة للتَّواصل البنَّاء لا أداة للإيذاء، وأمَّا القلب الرَّحيم فيعكس عمق البعد الإنساني؛ إذ يتجاوز حدود الذَّات ليشمل التَّعاطف مع الآخر ورعايته، وأخيرًا تأتي اليد المعطية لتجسِّد فعلًا ملموسًا للعطاء والتَّكافل، فتربط الإيمان بالسُّلوك العملي المؤثِّر في حياة النَّاس.
العلامة الأولى.. الوجه المنبسط
هناك أفعال صغيرة في ظاهرها، عظيمة في أثرها، تمدُّنا بالحسنات وتقرِّبنا إلى الله (تعالى)، وهي في متناول أيدينا جميعًا، ومن أيسر تلك الأفعال: الوجه المنبسط. و”البسط نقيض القبض وإنَّه ليبسطني ما بسطك ويقبضني ما قبضك؛ أي يسرني ما سرَّك ويسوءني ما ساءك”.
ومن هذا الأصل اللغوي يتَّضح، أنَّ “الوجه المنبسط” يشير إلى الوجه الطَّلق المشرق المتهلل، الذي يبعث في النَّاظر إليه شعورًا بالطَّمأنينة والارتياح؛ فالابتسامة الصَّادقة وانشراح المحيّا هي انعكاس لصفاء الباطن ونقاء السَّريرة.
والظَّاهر أنَّ ما قصده الإمام الصَّادق (عليه السلام) من هذه العلامة أعمّ من التَّعامل مع الأقارب أو الأصدقاء؛ إذ إنَّ صاحب الوجه المنبسط يتَّسم بانفتاحه على جميع من يلقاهم، قريبًا كان أم بعيدًا، صغيرًا أم كبيرًا ولكن بشرط ألَّا يكون مخالفًا لحكم شرعي.
العلامة الثَّانية.. اللسان اللطيف
اللسان اللطيف مرآة القلب النَّقي، يفيض بالكلمة الطيِّبة التي تزرع في الأرواح سكينةً ومحبَّة، وتترك أثرًا باقيًا في الدُّنيا والآخرة. ومن أحسن تربية لسانه أحسن تربية قلبه، فصار كلامه غرسًا مباركًا يؤتي ثماره حيثما وقع.
والمقصود بـ(اللسان اللطيف): هو ذلك اللسان البعيد عن الخوض في المحرَّمات، مثل الغيبة والنَّميمة والبهتان والخوض في الباطل، أو في مجالات قد تكون مباحة أحيانًا إلَّا أنَّها قد تجر إلى مشاكل لاحقًا مثل فضول الكلام الذي لا ينفع في أمر الدُّنيا ولا في أمر الآخرة.
وبعبارة أوضح، اللسان اللطيف: هو الدَّقيق في اختيار ألفاظه، ولا ينطق إلَّا بما هو نافع، يوجِّه الآخرين نحو الخير، ويُدخل على النُّفوس الهدى والسَّكينة، فهو مطبوع على الكلمة الطيِّبة التي تثمر في القلوب كما يثمر الغرس في الأرض الخصبة.
وعن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال: “والذي نفسِي بِيَدِهِ، ما أنفَقَ النّاسُ مِن نَفَقةٍ أحَبَّ مِن قَولِ الخَيرِ”، فالقول الحسن، في ميزان المعنى، أعظم من المال المنفق؛ لأنَّه لا ينقص بالعطاء، ولا يثقل على صاحبه، ويجري على لسانه فيثمر في قلوب الآخرين محبَّةً وسكينة، ويُكتب له عند الله (سبحانه) صدقةً دائمة.
العلامة الثالثة.. القلب الرحيم
القلب الرَّحيم: هو ذلك القلب الذي امتلأ بالرِّقّة والعطف، فانبعثت منه بواعث الإحسان ودوافع الخير اتِّجاه من حوله، فهو لا يقف عند حدود الشُّعور؛ وإنَّما يشارك الآخرين آلامهم، ويحاول أن يخفف عنهم ثقل المحن، ويحمل عنهم بعض ما ينوءون به من أعباء. فهو قلب يذوب حنانًا ورحمة، فيغدو جسرًا يصل النَّاس برحمة الله (تعالى).
والقلب الرَّحيم طريق إلى الرَّحمة الإلهيَّة في الدُّنيا والآخرة، وقد أكَّد أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليهما السلام) هذه الحقيقة بقوله: “كَمَا تَرْحَمُ تُرْحَمُ” ليدلّ على أنَّ الرَّحمة هي سبيل موصل إلى رحمة الخالق (سبحانه).
وجاء رجل إلى النَّبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، فقال له: “أحب أن يرحمني ربِّي؟”
فقال له النَّبي (صلَّى الله عليه وآله): “ارحَمْ نَفسَكَ، وارحَمْ خَلقَ اللَّهِ يَرحَمْكَ اللَّهُ” وهكذا يبيِّن الرَّسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) أنَّ رحمة الله (سبحانه) لعبده لا تنفصل عن رحمته بنفسه وبالنَّاس من حوله، فهي سُنَّة إلهية تربط الخالق (سبحانه) بالخلق، والعبد بالجنَّة.
ولكي يتهيأ القلب ليكون رقيقًا رحيمًا، لا بدَّ للإنسان أن يُطهره من مظاهر القسوة التي تحجبه عن الرَّحمة؛ فالإفراط في الذُّنوب، وأكل الحرام، والانغماس في اللهو واللغو، وكثرة المزاح والضحك، وسماع الغناء، وحتَّى بعض المهن التي تُقسي القلب كبيع الأكفان أو الذباحة، كلّها عوامل تضعف الرَّحمة. وفي المقابل، فإنَّ حضور مجالس العزاء، والاقتراب من الأيتام بالمسح على رؤوسهم، والإكثار من تلاوة القرآن الكريم، واستحضار حقيقة الموت، هي مفاتيح رقَّة القلب وجعله نابضًا بالمودَّة، فيَّاضًا بالمحبَّة. ومن يوفق لنيل قلب رحيم فقد وُهب الوسيلة الأسمى للظَّفر برحمة الله سبحانه وتعالى.



