اخر الأخباراوراق المراقب

في ذكرى مولد الإمام العسكري.. علم الغيب في خدمة الأمة

محمد علي جواد تقي..

“وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ”

كان هذا جواب رسول الله “صلى الله عليه وآله”، لمشركي مكة، عندما حاججوه بعدم امتلاكه الغيب، ليدعم قوله أنه رسول الله، ويفترض انه يعلم شيئاً من الغيب، على الأقل للاستفادة المادية، كأن يكون شراء بعض السلع بسعر رخيص مع معرفة ارتفاع ثمنها في قادم الأيام، فيبيعها ويكسب الفارق في الثمن، فجاء الجواب من القرآن الكريم على لسان النبي الأكرم، بأن لو كان الأمر كذلك، لاستكثرت من عمل الخير قبل دنو أجلي، كما جاء في بعض التفاسير.

ونحن نعيش هذه الأيام ذكرى مولد الإمام الحادي عشر من أئمة أهل بيت رسول الله، “صلوات الله عليهم”، يجدر بنا الإحاطة، ما أمكننا، بمفهوم غاية بالأهمية يتعلق بالجانب العقدي من حياتنا، فكثير من الأعمال والأفكار والقناعات إزاء الدين بشكل عام، مرتكزة على ايماننا بالغيب، بدءاً بالحرص على الثواب وتجنّب العقاب، رغبة بالجنة وخشيةً من النار، وهما من عوامل الغيب، فلا أحد يحصل على شيء مادي لقاء فعل الخير، بل ربما يكون العكس في بعض الأحيان، ولا أحد يتعاقب على فعل المعصية، وليس انتهاءً بعلاقتنا بالأئمة الاطهار وابنائهم في مراقدهم المطهرة، وكيف أن الناس تتوسل الى الله -تعالى- بمكانتهم ومنزلتهم عنده بقضاء الحوائج، وحتى تفادي الموت المحقق في حوادث السير بفعل صدقة بسيطة نعيطها للفقير، امتثالاً لما جاء في الحديث عن المعصوم، وغيرها كثير من الأمثلة في حياتنا اليومية.

وعندما نتصفح سيرة حياة الإمام الحسن بن علي العسكري، “عليهما السلام”، نجد أن العلم بالغيب حاضراً في حياته الشريفة، كما كان حاضراً في حياة جدّه المصطفى، وآبائه الأئمة المعصومين، “عليهم السلام”، وهي من ألطاف البارئ -عز وجل- لتعزيز الشخصية القيادية في أوساط المجتمع، وتكريس الإيمان في النفوس لتحقيق الرسالات الإلهية، كما هو الحال في عصا موسى، وبساط سليمان، ونار نمرود، كلها لم تحصل بإرادة خاصة منهم، بقدر ما كانت تجسيداً للإرادة الإلهية لنصرة الأنبياء في الموقف الحاسم، وأروع مثال من النبي سليمان الذي كان يتنقل بين البلدان على بساط الريح، وكان يتكلم مع الحيوانات والحشرات، لكنه عجز عن معرفة الشخص الذي داهمه في أعلى قمة يقف عليها لمراقبة الإنس والجن العاملين تحت يديه، وكان ذاك؛ ملك الموت، فقبض روحه وهو متكئ على عصاه دون أن يمهله الجلوس، ولذا حسم القرآن الكريم المسألة نهائياً بأن {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}.

علم غيب الأئمة ومعالجة الوسوسة

كثيراً ما كان المعصومون يخبرون الناس بالغيبيات عما فعلوه في خلواتهم، وحتى ما كان يدور في خواطرهم، وما يضمروه من نوايا والهدف الأساس؛ التربية والتعليم والتزكية، الى جانب فوائد أخرى تصب في مصلحة المؤمنين، كما حصل في إخبار من تطاردهم السلطة الغاشمة بعدم الظهور لفترة معينة، أو مغادرة مكانٍ الى آخر.

الابتلاء فلسفة المعجزة

كما مرّ، فان المعجزة ليست دائماً وسيلة للانتصار والتفوق بدليل عدم تعلقها بالإنسان كنبي أو وصي أو من أولياء الله الصالحين بالمرة، وطالما راود هذا السؤال، أذهان وقلوب الكثير، لاسيما المقيمين بالقرب من المراقد المشرفة، فهم يعتقدون أن وجودهم في هناك مدعاة للأمان، والخير، والبركة، بيد أن حقائق الزمن لا تؤكد هذا في معظم الأحيان، والمثال الأبرز من تأريخنا المعاصر؛ الانتفاضة الشعبانية في العراق عام 1991 عندما تحصّن الناس الى جوار ضريحي الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس، ظناً منهم، أن قوات نظام الطاغية صدام لن تمسهم بسوء، ولكن حصل الذي حصل حيث لم تتورع هذه القوات عن قتل الأبرياء وقصف المرقدين الشريفين.

ولعل هذه الواقعة التأريخية الأليمة تكون عبرة لنفهم معنى الإعجاز على يد أولياء الله الصالحين، ولماذا لا يجد الناس الإمداد الغيبي منهم في الأوقات التي يريدونها هُم.

ثم إن الناس في كل زمان ومكان يميلون الى القوي في ماله وسلاحه وقدراته الفائقة، وهذا ما لا يريده الإسلام للبشرية، إنما يريد القدرات لجميع الناس، يستخرجونها ويوظفونها لمجالات الخير والصلاح عندما يكونوا مؤمنين حقيقيين بالله وبما جاء من عنده من أحكام وقوانين وقيم، ومنها؛ قيمة الإيمان بالغيب الإلهي المطلق، وللأهمية القصوى لهذه المسألة البُنوية، جاء شرط الإيمان بالغيب كأحد شروط التقوى في بداية ثاني سورة في القرآن الكريم: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}، وهذا الإيمان يعد من جملة عوامل، تجعل الانسان بين الخوف الرجاء طوال حياته، ليكون متوازناً بين ما يطلبه من الله -تعالى- ويرجوه في عالم الغيب، وما عليه من التزامات في حياته اليومية، فلا نفي مطلق للغيب والمعجزة، كما لا نفي لعمل الانسان وسعيه واختياراته، فتكون الثمرة؛ أن {يرزقه من حيث لا يحتسب}.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى