التقوى السياسية

محمد علي جواد تقي..
بمرور الزمن، تتسع الهوّة بين السياسة والدين؛ وبين أدوات السياسة، وأركان الدين، وبين من يسابق الزمن للتحالف مع من يضمن صعوده، ليكون رجل سياسة “مسؤول”، ويطلق الوعود بتحسين الخدمات وتعيين الخريجين، وكل ما يشكوه المواطن، ومن يزن كلامه ومواقفه في ميزان التقوى مثل أي إنسان عاقل يتقي النار من الحرق، أو سلك الكهرباء من الصعقة، الى درجة أن الناس كادوا اليوم يغلبهم اليأس ويصرحوا بأن “لا مشكلة في السرقة والاختلاس، المهم تقديم الخدمات الجيدة، والعمل المُتقن!”.
وعليه؛ فان مفهوم التقوى، وفضائل أخرى مثل؛ الصدق والأمانة والعدل، هي قيم راقية ذات مكانة سماوية عالية يمكن التداول بشأنها في أماكن مثل المساجد، والمدارس الدينية، والمراقد المقدسة، بينما الواقع على الأرض، له قيم أخرى لا تنسجم مع هذه الأجواء، بدليل يسوقه البعض، “أنك لست وحدك يا صديقي على هذه البقعة الصغيرة وسط عالم مضطرب، تموج فيه التحالفات والمصالح، والرؤى المستحدثة للحاضر والمستقبل، فإن أنت تقيّدت بالمحظور فان الآخرين المطلقة أيديهم سيفرضون إرادتهم السياسية والعسكرية والاقتصادية”، لذا نجد من يتحدث “بالوطنية”، وأنه يناضل، من أجل مصلحة بلده وشعبه بأدوات واقعية معترف بها.
التقوى قمة الذكاء
من الغريب حقاً، تكرار كوارث اقتصادية وأمنية وسياسية في العراق بسبب الاعتماد على وسائل لا تمتّ بصلة الى هوية الشعب وطموحاته، ثم لا نجد من يعيد النظر بهذه المنهجية، على الأقل لتحقيق منجزات على الأرض بأقلّ التكاليف التي باتت اليوم ليس فقط الأموال، وإنما الأرواح أيضاً.
بيد أن مشكلة البعض أو الكثير توهمهم الذكاء في استخدام كل الأدوات لتحقيق ما يريدون، وأن هذا الذكاء يضمن لهم مستقبلاً سياسياً واجتماعياً زاهراً، بينما تجارب الزمن تؤكد حقيقة هذا الوهم، وأن الذكاء باللجوء الى الطرق الملتوية لن يؤدي الى نتائج طيبة، وإن أدت الى شيء فإنها بشقّ الأنفس، وبعد فترة طويلة لن يرى النتائج إلا الاحفاد، بينما يحصد الآباء والأبناء ضنك العيش والشقاء.
إن التأريخ والأجيال يؤكدون أن أمير المؤمنين “عليه السلام”، كان أذكى من معاوية؛ “وما معاوية بأدهى منّي لكنه يغدر ويفجر”، فأين ذكاء معاوية ومستشاره؛ عمرو بن العاص؟ وبمعيار الأمر الواقع في تلك البرهة الزمنية نتساءل: هل حقق معاوية ودولته؛ الرفاهية والنعيم لأبناء الأمة بعد اغتيال أمير المؤمنين وابنه الإمام الحسن “عليهما السلام” واستتباب الأمر اليه؟.
وأمير المؤمنين نفسه يشكو – في خطبة له- “لقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كَيْساً، ونسبهم أهل الجهل فيه الى حسن الحيلة، ما لهم! قاتلهم الله! قد يرى الحُوّل القلّب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين”، فالدين الذي يشير اليه “عليه السلام”، ليس فقط الصلاة والصيام، وزيارة المراقد المشرفة، وممارسة بعض الشعائر والقيام بأعمال البرّ، إنما هي المنظومة الأخلاقية والشرعية، المتكاملة التي وعد الله الانسان بأن من يتبعها تكون له الرفاهية ورغد العيش، {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}، وهذه من سُنن الله في الحياة.
ويرى بعض العلماء، أن “بعض الأذكياء يجدون لكل أمر معقد، حيلة ومخرجاً، ولكن تعوقهم دون ذلك التقوى التي يستشعرونها في قلوبهم، ومنهم من يتحين الفرص، ليرتكب ما شاء من الموبقات والمعاصي، ولا يجد في نفسه حرجاً من ذلك”، وفي كلام أمير المؤمنين، إشارة دقيقة الى الشخصية الحقيقية للإنسان الذكي الذي يدع التحالفات، والمحاور، والوعود، وكل ما يتصل بالدجل السياسي، جانباً، واتخاذ الموقف الشجاع بالتخلّي عنها وهي طبخة سياسية ناضجة أمام عينيه، “بعد القدرة عليها”، فشخصٌ من هذا النوع هو من يتصف ببعد النظر والتطلع الى المستقبل، كما فعل أمير المؤمنين، ولم يكن مثل كثيرين باعوا كل شيء من أجل الخلافة المزيفة، والامتيازات حتى مات أحدهم، ولما أرادوا توزيع ميراثه على ابنائه، اضطروا لتكسير قطع الذهب بالفؤوس، ولكن في الوقت نفسه كسرهم الزمان والتأريخ ولم تحفظ لهم الأجيال سوى هذه الكلمات المخزية في صفحات التأريخ.



