اخر الأخباراوراق المراقب

الوعي الديني في زمن التكنولوجيا الرقمية

باسم حسين الزيدي..

يشكل الوعي الديني، أحد أهم مرتكزات بقاء الأمم وأساس نهوضها الحضاري والفكري والأخلاقي، إذ إنه يمثل البوصلة التي تهدي الإنسان في مسارات الحياة المادية المختلفة، وتمنحه القدرة على التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال، وتعطيه الفرصة لإعادة تقييم الفرص والتحديات على وفق منظور أخلاقي وفكري متوازن.

وحينما يتعرّض هذا الوعي لاهتزاز أو تشويش، فإن انعكاس ذلك يكون مباشراً على بنية الفرد أولاً والمجتمع ثانياً ووجهته الحضارية ثالثاً، وفي هذا المعنى، يشهد عالمنا المعاصر، تحولات عميقة غير مسبوقة بفعل الثورة الرقمية التي اجتاحت كل جوانب الحياة، وأعادت صياغة أنماط التفكير، وطرق التواصل، وآليات اكتساب المعرفة، الى جانب الكميات الهائلة من النفايات المعرفية الرقمية في ظل غياب الوعي الواعي وسيطرة الذكاء الاصطناعي وأدواته على المشهد في الوقت الراهن.

لقد أحدثت التكنولوجيا الرقمية، نقلة نوعية في حياة الإنسان، بحيث لم يعد العالم مقسماً إلى جغرافيات منفصلة، بل صار قرية صغيرة مترابطة، يتأثر فيها الفرد بأحداث تقع على بعد آلاف الكيلومترات في لحظات قليلة، هذه الثورة التكنولوجية، على الرغم مما تحمله من فرص عظيمة، أفرزت تحديات جذرية تمس الوعي الديني للأمة الإسلامية، والأجيال المسلمة، حيث أصبح الدين حاضراً في الفضاء الرقمي حضوراً واسعاً، لكنه في كثير من الأحيان مشوها، مجتزأ أو مشحوناً بالسطحية والانفعال.

من هنا تبرز الحاجة الملحة إلى مناقشة ودراسة “الوعي الديني في زمن التكنولوجيا الرقمية”، ليس باعتباره ترفاً فكرياً، بل ضرورة حضارية ملحة لمواجهة أزمة التدين السطحي، والانفتاح غير المنضبط، والفتاوى العشوائية، والتوظيف الأيديولوجي للدين في فضاءات الإعلام الجديد.

إن الإسلام -بوصفه رسالة خاتمة- يمتلك من المرونة والقدرة ما يجعله قادراً على التفاعل مع كل عصر وأدواته، شريطة أن يفهم فهماً رسالياً محمدياً أصيلاً، بعيداً عن التقليد الأعمى أو الانغلاق الجامد، وقد أكد القرآن الكريم، مركزية الوعي والتبصر في الدين لقوله تعالى: (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي).

الوعي الديني والتحول الرقمي

الوعي الديني ليس مجرد معرفة بالمفاهيم العقائدية أو الاطلاع على الأحكام الشرعية، بل هو إدراك شامل لطبيعة الدين، ومقاصده، وأبعاده الحضارية، ويمكن تعريفه بأنه: “القدرة على فهم الدين فهماً عميقاً يترجم في السلوك الفردي والجمعي ويؤسس لرؤية متوازنة للعالم والحياة”.

التحدي الأكبر الذي يواجه الأمة الاسلامية اليوم هو كيفية المحافظة على عمق الوعي الديني في ظل هذه التحولات، إن وفرة المعلومات الدينية على المنصات الرقمية قد تعطي انطباعاً كاذباً بالمعرفة، في حين أن كثيراً منها يفتقر إلى الضبط العلمي والدقة، ولذلك، فإن الوعي الديني الحقيقي في هذا السياق يقوم على ثلاثة عناصر أساسية:

1– النقد والتحقق: أي التمييز بين المصادر الموثوقة والمصادر المجهولة.

2– العمق في الفهم: تجنّب اختزال الدين في الشعائر الشكلية أو النصوص المبتورة.

3– القدرة على التفاعل الواعي: أي استثمار التكنولوجيا فيما يعزز قيم الدين بدل أن يفرغه من محتواه.

نشر الدين والمعرفة

لقد أوجدت التكنولوجيا الرقمية، فرصاً غير مسبوقة في نشر المعارف الدينية، فاليوم يمكن للشاب المسلم، أن يصل إلى القرآن الكريم وتفاسيره عبر التطبيقات، وان يقرأ الكتب الدينية النادرة والحديثة عبر هاتفة المحمول مجاناً ومن دون شرائه من المكتبة، وأن يشاهد ويستمع إلى خطب ومحاضرات العلماء من مختلف أرجاء العالم، وأن يشارك في النقاشات الدينية عبر المنصات الاجتماعية، وأدت الى الانتشار الواسع للمحتوى الإسلامي مع توفير مصادر متعددة للتفقه في الدين أو التعرف على تفاصيله وعلومه، اضافة الى القدرة على مخاطبة الشباب بلغة جديدة ووسائط حديثة.

لكن رغم الإيجابيات الكبيرة التي يمكن الاستفادة منها، إلا أن هناك تحديات خطيرة تواجه الوعي الديني في العصر الرقمي ولا يمكن تجاهلها بأي حال من الأحوال لعل أبرزها:

1- انتشار المعلومات المغلوطة: حيث يختلط الصحيح بالباطل، ويصعب على المتلقي التمييز بينهما دون وعي نقدي.

2- فوضى الفتاوى: حيث ينشر بعض الأفراد، فتاوى دينية دون علم أو ضبط علمي، مما يضر بالوعي الديني العام.

3- الاستقطاب المذهبي والطائفي عبر الشبكات: إذ تستخدم المنصات الرقمية أحياناً لتفخيخ الانقسامات بين المجتمعات واستغلال العقل الجمعي لتنميطه باتجاه وغاية معينة.

4- تسطيح الوعي: حيث يقتصر استهلاك المحتوى على المقاطع القصيرة دون فهم معمق للمعاني أو السياق.

وقد حذّر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) من السطحية في العلم، فقال: “قيمة كل امرئ ما يحسنه”، أي أن قيمة الإنسان بقدر عمق ووعي فهمه ومعرفته، لا بما يردده من شعارات أو مقاطع عابرة.

دور المؤسسات الدينية

تلعب المؤسسات الدينية بمختلف مسمياتها (الحوزات العلمية، المدارس الدينية، المراكز الإسلامية الفكرية، المواقع الدينية الالكترونية، المراجع ورجال الدين…الخ) دوراً كبيراً في ضبط الوعي الديني، فهي ليست مجرد أماكن لتدريس الفقه ونشر العلوم الدينية أو تلقي العلوم والمعارف الدينية، بل تعد مراكز لإعداد الإنسان والوعي، ومساعدة الفرد والمجتمع في الوصول الى التكامل الروحي والأخلاقي والفكري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى