نَوْحٌ من القرن الثالث عشر يتماوج عند ضفاف الطف

د. نضير الخزرجي..
الحياة تجارب.. مقولة ليست ككل المقولات التي نسمعها، نقف عندها أو نتجاوزها، فهي مقولة حيّة بدنها الأعمال ودثارها الألفاظ، ولا يُغني لفظ عن عمل، ولا يغني عمل عن تجربة، ولا يغني عمل عن خبرة، فإذا اجتمعت الرؤية والخبرة والتجربة في بوتقة واحدة، نال المرء منها الظفر، وتجنب المفزعات من الأقدار وما تخفيه حالكات الأيام، وبتعبير الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: “الأمور بالتجربة، والأعمال بالخبرة”، ولأن: “التجارب علم مُستفاد” كما يؤكد عليه السلام، فإن الصواب مآل المجرب ونواله، وكما يفيدنا عليه السلام أيضا: “ثمرة التجربة حسن الاختيار”، ومن أحسن الاختيار نال مراده، وبتعبيره عليه السلام: “الظفر بالحزم، والحزم بالتجارب”.
ولأن الحياة مدرسة، فهي أم التجارب ومصنع التجارب ومختبر التجارب ومزرعة التجارب، وأول الدرجات على سلم التجربة في أي حقل من حقول الحياة هو المعرفة والإحاطة بالقدر الممكن، لأن: “العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس” كما يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام.
ومن تجارب الحياة في بلاد الغرب هو التعاطي والتعامل مع الإنسان والحيوان حينما يتعرض أحدهما لحادث في الشارع العام، فالإنسان الشرقي وخاصة المسلم المتشبع بثقافة “أحب الناس الى الله أنفعهم للناس” كما يقول رسول الرحمة والإنسانية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، يسرع إلى مد يد العون كأن ينقل المصاب الى أقرب مستشفى، وهو أمر طبيعي كما يبدو للوهلة الأولى، ولكن بحسابات الواقع والتجربة، فإن نقل المصاب إنساناً كان أو حيواناً فيه مسؤولية تقع تبعاتها على فاعل الخير، ومن مثال ذلك أنه ذات يوم كان أحد أصدقائنا من مملكة البحرين يسير في أحد شوارع لندن، فرأى عصفوراً مصاباً، ولأن الرحمة غلبت عليه أخذه إلى أقرب مصحة حيوانات، فاستقبلته المصحة بقبول حسن وأخذت معلوماته الشخصية من اسم وعنوان وشكرته على حسن تصرفه، وبعد أيام جاءته عبر البريد فاتورة بحساب علاج العصفور، فانعقد لسانه ولم يحرز جواباً لما حصل، فعندما اتصل بالمصحة يعلمهم بعدم عائدية العصفور له وأنه جاء به من الشارع لأغراض إنسانية، لم يكن جوابه مقنعاً وإن كانوا هم على دراية بذلك، ولكن القوانين تحتم عليه أن يدفع الفاتورة وألزمته في عنقه، وأخذ العصفور العلاج الكافي وأُطلق سراحه.
وكانت التجربة قاسية على صاحبنا رغم قلة المبلغ المطلوب دفعه، وعرف من خلال ما جرى أنه لا ينبغي له أن ينقل جريحاً وإن كان عصفوراً فما بالك بإنسان مصاب حتى وإن كان يشارف على الموت، فما يمكنه أن يفعله هو أن يتصل برقم دائرة الطوارئ المعنية وهي تتخذ اللازم، وحتى في هذه الحالة هو ملزم أن يفصح عن شخصيته، ويكفي أن هاتفه يكشف هويته وعنوانه.
قصة الصديق البحريني مع العصفور الجريح، تناهت إلى ذاكرتي المعطوبة بدخان النسيان، وأنا مندمج مع الشعر والشعراء الذي ينهي معظمهم القصائد طالت أبياتها أو قصرت بحنين الورقاء وهديل اليمامة ونوح الحمامة.
القوافي الناهضات
في سلسلة “الحسين في الشعر العربي القريض” صدر حديثا (2025م) عن المركز الحسيني للدراسات بلندن، الجزء الثامن من “ديوان القرن الثالث عشر” للمحقق الأديب الشيخ محمد صادق الكرباسي، في 317 صفحة من القطع الوزيري، يتناول ما قيل في الإمام الحسين عليه السلام ونهضته المباركة من مقطوعات وقصائد لشعراء من القرن الثالث عشر الهجري الواقع في الفترة الميلادية (تشرين الأول اكتوبر 1786- تشرين الثاني نوفمبر 1883م).
ويمثل الجزء الثامن في واقعه مكملاً للجزء السادس من حيث تتابع حروف القوافي، فالسادس انتهى بقافية الغين والثامن بدأ بقافية الفاء، وهذا يعني أن الجزء السابع والقسم الأول من الجزء الثامن وضعه مؤلفه للقصائد المستدركة من القوافي الماضية في القرون المنصرمة التي تم العثور عليها بعد طباعة الكتاب، لأن المؤلف كما عودنا المرة تلو الأخرى أن البحث والتحقيق هو شاغله الأول، فإذا وجد ما يستدرك به ما مضى، قيَّده فيما يُتلى، وبتعبير الأديب اللبناني عبد الحسن دهيني في كلمة الناشر: (فالذي يسعى للقيام بعملية إحصاء للقصائد والمقطوعات التي نظمت في تلكم الواقعة – واقعة كربلاء عام 61 هــ – منذ ذلك التأريخ، لا يمكنه التوقف عن العد والإحصاء، فكلما خُيّل له أنه انتهى، يجد أمامه توالد قصائد ومقطوعات جديدة كل عام، بل ربما كل يوم دون مبالغة في هذا القول، كذلك سوف يجد في مظانِّ الكتب والدواوين قصائد ومقطوعات غفل عن إحصائها، أو لم يكن يستطيع الوصول إليها أو العثور عليها. هذا بالضبط ما يحصل مع مؤلف دواوين دائرة المعارف الحسينية في باب الشعر الحسيني، سماحة آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي دام ظله، فما أن ينهي ديواناً من دواوينها في قرن من القرون ويصدر مطبوعاً حتى يعثر على قصائد جديدة لذلك القرن، ما يضطره وضعها في الدواوين اللاحقة كمستدركات على القرون السابقة كما في هذا الجزء).
من هنا، كان الجزء الثامن من ديوان “القرن الثالث عشر” الذي يبدأ بقافية الفاء حتى قافية الكاف، فيه استدراكات على ما تم العثور عليه من قافية النون في القرن الرابع الهجري وقافية التاء في القرن الثامن الهجري، وقافية السين والعين في القرن الثالث عشر الهجري.



