اخر الأخباراوراق المراقب

الموقف الأخلاقي في عاشوراء ووعي اللحظة الحاسمة

مرتضى معاش..

موقف كل إنسان في الحياة، هو سلوك يظهر من باطنه ليطفو على ساحل وعيه، فالإنسان الذي يختار القرار الصحيح ويستجيب للموقف المعين الذي يتعرض له هو الذي استطاع أن يبني وعيه من خلال بناء شخصيته واختزان الصالحات والإيجابيات في أعماق قلبه.

والفرق بين الإنسان الواعي والإنسان الذي ليس له وعي، هو الإنسان التكعيبي، بمواجهة ذي الأفق الواحد.

الإنسان التكعيبي هو الذي استطاع أن يبني التكامل بين أبعاده الثلاثة، البعد النفسي، البعد المادي، البعد الفكري. هذه الأبعاد الثلاثة عندما تتكامل فيما بينها تشكل شخصية الإنسان السليمة والصالحة فيتشكل وعيه، وعندما يتشكل وعيه يستطيع أن يستجيب في الأزمة والموقف المعين الاستجابة الصحيحة السليمة.

فالموقف الأخلاقي هو لحظة وعي تأتي من التكامل التكعيبي في الانسان (مقابل السطحي)، فالإنسان يحتاج الى نمو متكامل في الجوانب المادية والنفسية والفكرية، يؤدي الى إنتاج الذات (المعنوية) القادرة على الارتباط بالفطرة والضمير والمسيطرة على الجموح الغرائزي.

وهذه الذات الواعية تمتلك القوة المدركة والفاهمة في الاستجابة الناضجة للمواقف والأزمات، والاختلال في الابعاد يؤدي الى هيمنة الغرائزية وتسلطها ومن ثم تحصل الاستجابة السيئة في الازمات.

وذلك لأن هناك صراعا بين الغريزة والعقل في الإنسان، والذي يستطيع أن يتحكم بغريزته ويكبح جماحها هو الذي يملك الوعي اللازم للتحكم بالغريزة واحتوائها وإدارتها بحكمة.

فالغريزة هي هيجان يعصف بالإنسان، والإنسان ذو البعد الواحد الذي يعيش في الحالة المادية المطلقة، لا يستطيع أن يتحكم بغريزته، بل هي التي تقوده أينما هاجت او ماجت. لذلك فإن القليل جدا من الناس الذين يستجيبون إلى المواقف الأخلاقية السليمة في الحياة. لأن الوعي قد حجبته الغريزة، فيفكر في نفسه فحسب، وعندما تظهر غريزة الخوف عند هذا الإنسان، تجمح غرائز أخرى كغريزة الطمع والحرص على الدنيا التي تظهر عند هذا الإنسان الذي ينساق مع القطيع العام الغالب في المجتمع.

الأكثرية العمياء عن الحق

لذلك نرى في يوم العاشر من المحرم أن الذين بقوا مع الامام الحسين (عليه السلام) ونصروه هم قلة قليلة جدا، وهم الثلة الواعية التي امتلكت تلك الأبعاد الثلاثة في الشخصية، فتكامل وعيها ونضج فهمها.

وقد قال الامام الحسين (عليه السلام): (النَّاسُ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَالدِّينُ لَعْقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُون).

والأكثرية العمياء عن الحق هي التي تسير وراء العيش الغرائزي الذي حجب فيه العقل، فغاب الشعور بالمسؤولية والعواقب المترتبة على تركها، وهذا العيش الغرائزي ليس فيه موقف أخلاقي، فالموقف الأخلاقي هو الموقف الذي ينبع من لحظة وعي، هو ثمرة يأتي نتاجها من خلال سنين عديدة مرت على شخصية الإنسان، فتظهر في تلك اللحظة المعينة.

وهذا معنى الإنسان التكعيبي في مقابل الإنسان ذي الأفق الواحد، وعلى سبيل المثال، فالذي ينظر إلى شيء معين أفقيا تكون رؤيته مسطحة او سطحية في بعد واحد على خط مستقيم يستطيع ان يرى من هو أمامه فقط، أما الذي ينظر من فوق مبنى عال إلى تحت، تكون نظرته تكعيبية في أبعاد متعددة فتكون نظرته شاملة لاتجاهات مختلفة، فيرى الصورة بشكل أعمق، والنظرة إلى الحياة والموت هكذا عند الإنسان الواعي.

أغلب الناس هم الذين سجنوا أنفسهم في الأفق الواحد يذهبون وراء معيشتهم المادية فحسب، ويتصورون أن معنى وجوده يتحقق عندما يستجيب لحياته الغرائزية يعيش يومه الطبيعي، آمنا في منطقة راحته وهي المنطقة التي يتوهم أنه سيكون في أمان عندما يكون محايدا في مواقفه، ولايهمه أن يكون في موقف الحق مقابل الباطل.

وعدم العمل على بناء التكامل في الشخصية هو الذي يؤدي الى ضياع الفرد، بل ضياع أمة في لحظات مفصلية تأريخية، عندما تهيمن الغرائزية عليها وتحرف مسار الوعي عن إدراك مفهوم الحق، فالمجتمعات الغرائزية تتحكم فيها الحالة الغرائزية المادية ذو البعد الواحد، هي نتاج للفرد الغرائزي، كما أن الفرد الغرائزي هو نتاج لمجتمع او أمة غرقت في مستنقع غرائزها وشهواتها فأصبحت مجرد متفرج على الاحداث.

 لذلك نقرأ في زيارة الامام الحسين (عليه السلام): (فلعن الله أمة قتلتك ولعن الله أمة ظلمتك، ولعن الله أمة سمعت بذلك فرضيت به…)، وهذا يعني أن أمة كاملة قد غاب وعيها وأضاعت لحظتها الحاسمة.

لحظة الوعي بين زمنين

وهنا يتبادر السؤال التأريخي، ما الفرق بين زمن كان فيه الإمام الحسين (عليه السلام) حاضرا وهو يخاطبهم بشكل مباشر ولم يتأثروا، فكيف نتوقع في الزمن الحاضر أن تتحقق لحظة الوعي من اجل الإصلاح والتغيير؟

ولكن من قال إن الإمام الحسين (عليه السلام) كان لحاضرهم فحسب، بل إن الإمام الحسين (عليه السلام) كان لحاضرنا ومستقبل الأجيال المتلاحقة، فالإمام الحسين (عليه السلام) رسالة مستمرة ممتدة إلى الأبد لأنها إحياء، إحياء لوعي الإنسان، إحياء لعقله، بل هو بناء وعي عميق لمفهوم الحياة والموت، فقد أراد أن يثبت لنا الفرق في المعنى بين الموت والحياة، فهناك إنسان يعيش مئة سنة من حياته وعمره ولم يفعل شيئا مثمرا ومفيدا في حياته بحيث يكون مؤثرا، بل كان يعيش حياة عادية وروتينية فقد كان محايدا في كل شيء يتصور أنه سيعيش في أمان دائم، فهل هناك قيمة لعمره، ولكن نرى أن هناك شخصيات خالدة بأعمار قصيرة جدا يستمر تأثيرها بشكل واسع على الأجيال المتلاحقة مثل علي الأصغر بن الحسين والقاسم بن الحسن (عليهما السلام).

فالحياة والموت هي حالة نسبية لاتقدّر حيثياتها بالكم والوجود المادي، بل بالوجود المعنوي والكيف، وإدراك هذا المفهوم هو الذي يجعل الإنسان يتخذ قرارات ذكية صالحة، عندما يتحول الى فكرة، راسخة في ذهن الإنسان،

وقد قال الإمام علي عليه السلام في معركة صفين: (فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ).

فالإنسان الذي يكون عنده موقف أخلاقي مسؤول فهو منتصر حتى وإن كان ميتا، والإنسان الذي ليس عند موقف يكون ميتا حتى وإن كان حيا، لأنه مهزوم في ذاته ومنكسر في نفسه، وهذا معنى هزيمة أمة كاملة بسبب عقلية الحياد، فقد كانوا يبكون على الإمام الحسين (عليه السلام) ويحبونه مثلما نحبه ونبكي عليه الآن، لكنهم خذلوه ولم يستجيبوا لنصرته في لحظة الاستجابة للموقف المسؤول.

الرغبوية والتضليل الذاتي

حتى لو كان الانسان في ظاهره شخصية صالحة ومؤمنة لكنه انخدع بالخطاب التضليلي مع أنه قد سمع نداء الامام الحسين (عليه السلام)، فلم يستجب لذلك النداء للظروف التي أحاطت بالأحداث في ذلك الوقت، فإن هذا في أحيان كثيرة يعبر عن أن هناك خللا في تكامل الشخصية وتكعيبها وعمقها في إدراك وفهم الاحداث وامتلاك في اللحظات الحاسمة.

فالخداع والتضليل هي مغالطات تنشأ من ذات الإنسان وهي حالة رغبوية، بأن اشتهي ما أريد أن أسمعه، فأنا أستمع للأخبار التي أرغب بالاستماع لها وليس ما اطلبه من حقيقة، حيث لا ارغب إلا بالواقع المصطنع الذي يتلاءم مع تركيبة نفسي ومشتهياتها ولا ارغب بفهم وإدراك الواقع الحقيقي.

وهذه العملية تسمى التضليل الذاتي، حيث يؤدي الى تمكين التضليل الخارجي الذي دخل عليه إذ لايستطيع هذا التضليل الخارجي أن يتحكم بالإنسان ويتلاعب ما لم يسمح هو بذلك.

(يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ، فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) البقرة9/12.

فهذا الإنسان هو الذي يخدع نفسه ويبني مملكة الأوهام داخل نفسه حتى وإن كان يعتقد في نفسه أنه عارف عالم، حيث يحاول ان يحرف الواقع بما يتناسب مع رغباته، وينقل وعيه الى دائرة اوهامه.

 لذلك في عاشوراء ظهر معنى المسؤولية الشرعية والموقف الأخلاقي، فهناك من تخلى عن تلك المسؤوليات خوفا على امواله وأبنائه وارزاقهم، وهناك من انساق وراء المطامع تأمينا لمستقبله، فهؤلاء الذين اجتمعوا حول مسلم بن عقيل بالآلاف كانوا يرغبون بالنصر وما يأتي به من مغانم، ولم يفكروا بأداء المسؤولية وهو نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) ونصرة العدالة الإلهية والوقوف أمام الظلم والطغيان، وقفوا مع المكاسب والمغانم فهنا وفي اللحظة الحاسمة للوعي حضورا وغيابا يتبين من يعمل وفق رغباته أم وفق المسؤولية الشرعية التي يفرضها الموقف الأخلاقي.

التغييب الذاتي للوعي

إن غياب الوعي في معركة كربلاء هو الذي تسبب بحضور الرغبة، فالرغبة هي نتاج للانسياق المادي وراء هيمنة الغرائز، فالانغماس في الشهوات هو ممارسة استمرت في تغييب العقل عن الحضور فغاب الوعي في اللحظة الحاسمة، وهو تغييب ذاتي يتكرر في كل الازمان للفرار من الموقف الأخلاقي، وعلى سبيل المثال كم من الناس يرغب في المعرفة والتعلم للوصول إلى الحقيقة؟ لأن التعلم والمعرفة ينبثق منها معنى الوظيفة الشرعية وما ينتج منها من مسؤوليات.

ولكن من التعلم المعرفي نرى معظم الناس مندفعين نحو التوافه، فعالم التوافه سيطر على العقول وحجبها عن الوعي، لأن التوافه عالم يبعد الانسان عن العمل الجدي والسعي والحركة والتفكير والمسؤولية والاهتمام، بحيث أصبح اليوم هو عصر الراحة والتمتع بالتكنولوجيا.

وقد كان موقف الإمام الحسين (عليه السلام) واضحا مثل وضوح الشمس وهو حجة علينا ولذلك لابد أن نذهب وراء ما يطلبه حتى نصلح واقعنا، وهو الآن يخاطبنا (عليه السلام) مثلما خاطبهم (كونوا أحرارا في دنياكم)، وكذلك: (وإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً)، وكلمة (برما): تعني الضجر والسأم والملل الذي يصيب الإنسان.

وهنا الإمام الحسين (عليه السلام) يعطي لهذا المعنى بعدا أساسيا، فالأمة الفاشلة هي التي تعيش الكسل والضجر والملل في حياتها وهي الحياة مع المتقاعسين والمحايدين والظالمين، وحينئذ فلا معنى لهذه الحياة العدمية العبثية، بل السعادة في الوعي بمعنى الموقف الأخلاقي الذي يعبر عن المعنى الوجودي لكل انسان.

لذلك معظم الناس يبحثون عن مناطق راحة تبعدهم عن الشعور بالآلام، ولكن الحياة الصحيحة السليمة هي التي فيها نمو وتطور وتقدم ونهضة وهي تحتاج الى جد واجتهاد وهذه الجهود تقوم على آلام إيجابية، فالبقاء في منطقة الراحة والحياد بعيدا عن آلام المسؤولية يأتي بكوارث وأزمات، فالمجتمعات المتخلفة والمتحطمة هي التي تنغمس في مشروع إصلاحي بسيط يقوم على الشعارات المضللة، مشروع ليس فيه مؤونة وجهد وعمل وصبر، بل مشروع متعجل يحقق لها مغانم سريعة ولذات عاجلة، لذلك يتم تغييب الوعي الإصلاحي العميق.

ولكن الإصلاح الجوهري الذي يخلق النهضة والتغيير هو مشروع ممتد يطول عشرات السنين يقوم على أسس تربوية صحيحة سليمة، وقد نتنازل فيه عن رفاهيتنا ولذاتنا ومتعنا العاجلة، من أجل تحقيق نتائج آجلة، فالإصلاح يقوم على البناء التراكمي المستدام.

لذلك فإن الأمة التي تنهزم في الإصلاح هي التي تبحث عن اللذة والمتعة، وهكذا فعلوا مع الإمام الحسين (عليه السلام) حيث كانوا يبحثون عن مكاسب ومغانم ومصالح، فالذين يرفعون شعارات الاصلاح تفشل مشاريعهم الإصلاحية لأنه عندما يصلون إلى السلطة ينغمسون في حصد المكاسب والمغانم، معللين ذلك أنه لدعم المشروع الإصلاحي، لكن تلك الانتهازية تدمر المشروع الإصلاحي، وهكذا يضمحل الافراد وتموت المجتمعات وتنهزم الأمم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى