مدرسة الإمام الصادق(ع).. منبع العلم الأصيل وأفق النهضة المتجددة

تتميَّز مدرسة الإمام الصَّادق (عليه السلام) بجملةٍ من الخصائص الفريدة التي شكَّلت منهجًا علميًّا متكاملًا تحرَّك الإمام (عليه السلام) من طريقه، واستطاع عبره أن يجذب إليه طلَّاب العلم والمعرفة من مختلف الآفاق، وقد تجلَّى هذا المنهج في عمق الطرح، ودقَّة الاستدلال، وسعة الأُفق المعرفي، وحين يُقارَنُ هذا النموذج المعرفي الرَّفيع بما نجده في المدارس التي انحرفت عن فكر هذا الإمام العظيم (عليه السلام)، يظهر جليًّا الفارق الكبير؛ إذ تبدو السطحيَّة والتَّقليد الأعمى سمة بارزة على كثير من نتاج تلك المدارس، التي افتقرت إلى العمق التَّحليلي والرؤية العلميَّة الشموليَّة. إنَّ غياب التأصيل العقلي والدِّقة المنهجيَّة في تلك المدارس جعل من معارفها علومًا عابرة، تفتقر إلى التَّأثير والجاذبية المعرفيَّة.
وعلى النقيض تمامًا، حينما نسلِّط الضوء على ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)، نجد أنَّ مسار التأصيل العلمي لديه يرتكز على الدقَّة المتناهية، والعمق الفكري، والغوص في جذور المسائل وأُسسها المعرفيَّة؛ الأمر الذي يمنح البناء الفكري قوةً راسخة، وقدرة على مقاومة التَّحريف والتَّآكل عبر الزَّمن؛ فالفكر الذي يستند إلى قواعد متينة، لا تهزُّه رياح التَّغيرات ولا تنال منه الشُّبهات.
أمَّا الفكر السطحي، فهو على العكس من ذلك تمامًا؛ لا يملك عناصر الديمومة ولا يمتلك بنيةً تحميه من الانهيار؛ لأنَّ افتقاده إلى الجذور المعرفيَّة العميقة يجعله عرضةً للتشويه والتَّقلُّب، ولا يستطيع أن يصمد أمام النَّقد أو المشاكل الفكريَّة. والمنصف، حتَّى وإن لم يكن من أتباع هذه المدرسة، لا يسعه إلَّا أن يُقِرَّ بوضوح الفارق الكبير بين فكرٍ مؤصَّلٍ محكم، وآخر هشٍّ زائل.
لم نكن حاضرين في العصر الذي كانت فيه إشراقات الإمام الصادق (عليه السلام) وإضاءاته العلميَّة تملأ الأفقين وتُنير عقول الباحثين؛ لكنَّ نوره لم يُحبس في زمنه؛ وإنَّما تسرَّبت ومضاته عبر الدهور، متجاوزةً قيود الزَّمن وحدوده، لتصل إلينا بوصفها نوافذ مفتوحة على عوالم من المعرفة الربَّانية والوعي الرسالي؛ ومن خلال هذه الإشعاعات الخالدة نستطيع أن نطلَّ على ذلك الفكر العميق ونستكشف أبعاده اللامتناهية.
ومن أروع ما يمكن أن يقودنا في هذه الرحلة نحو فهم الفكر الأصيل، هم العلماء الربَّانيون الذين حملوا على عواتقهم أمانة هذا الميراث العلمي الطَّاهر، فاستناروا بنوره وتفحصوا أسراره بعمق وتأمُّل؛ ليكونوا بحقٍّ قنوات حيَّة تربط بين حكمة الإمام (عليه السلام) وبين أجيال الأمَّة المتعاقبة؛ فبهم تُصان المعارف، وبتوجيههم تُفهم الحقائق، ومن خلالهم يستمر إشعاع تلك المدرسة في الوجدان الإسلامي إلى يومنا هذا.
لقد مضى على زمن الغيبة وإلى يومنا هذا عشرات الآلاف؛ بل مئات الآلاف من المجتهدين والكتَّاب والباحثين الذين كرَّسوا أعمارهم في سبيل الغوص في أعماق هذا الفكر الأصيل، محاولين الاقتراب ما أمكن من منبع ذلك الإشعاع النوراني الذي أطلقه الإمام الصادق (عليه السلام) وأمثاله من أئمة الهدى (عليهم السلام)، ولم يكن سعيهم مجرَّد تراكم معرفي، وإنَّما هو مسار تحقيقي دقيق يتطلَّب سعة أفق، وصدق نيَّة، وشغفًا بالوصول إلى الحقيقة الأصيلة.
وعلماؤنا الأعلام –عبر القرون– لم يدَّخروا جهدًا في تتبُّع آثار هذا الفكر العظيم؛ فهم الأمناء عليه، والحملة الصادقون له، ومن الجدير بنا أن نستنير بهم ونتَّخذ من نهجهم دليلًا ومرشدًا في سعينا لفهم الحقائق واستيعاب العمق؛ إذ إنَّ من لا يسلك طريقهم، يوشك أن تزلَّ به القدم أو يتوه في متاهات الفكر السطحي.
إنَّ النهج السليم في استخلاص النظريات واستنباط الأحكام، هو أحد المرتكزات الكبرى التي أولى لها الإمام الصادق (عليه السلام) اهتمامًا بالغًا، فأسهب في بيانها وبيَّن معالمها بأسلوب علمي دقيق، ليضع بين يدي طلَّاب العلم مفاتيح الاجتهاد وأدوات الفهم الصحيح، ولم يكن هدف الإمام (عليه السلام) أن يحتكر المعرفة؛ وإنَّما يفتح أبوابها على مصراعيها أمام كلِّ مريدٍ للعلم، ليكون كلُّ ساعٍ إليه قادرًا على بلوغ مدارج الفهم والبصيرة؛ ولهذا، لا يثير دهشتنا ما يرويه أهل التراجم والرجال، ومؤرّخو الحديث، والمشتغلون بتأريخ الحوزات العلمية، من أن عدد من تتلمذ على يد الإمام الصادق (عليه السلام) بلغ نحو أربعة آلاف راوٍ، وعالم، تتلمذوا عليه مباشرة، وتبعهم عدد كبير ممَّن تلقى عنهم بالواسطة. وهذا الامتداد العلمي كان نتيجة منهجية دقيقة رسَّخها الإمام (عليه السلام)؛ ليكون العلم منارًا يهتدي به كلُّ من أراد أن يغترف من هذا البحر الزَّاخر.
ووصل الإمام الصادق (عليه السلام) إلى مقامٍ رفيعٍ جعـل الموافق والمخالف معًا يعترفون بعلمه، ويمدحون علو منزلته، ويقرُّون بتفرُّده في ساحات الفكر والمعرفة، وهذا الاتِّفاق النَّادر بين من والاه ومن خالفه يُعدُّ دليلًا بيّنًا على عظمة الإمام (عليه السلام)، وعلى أنَّ علمه كان نورًا مبذولًا لكلِّ من ابتغى الحقيقة وسعى لنيلها بإخلاص؛ ومن هؤلاء:
- أبو العوجاء، قال: “ما هذا ببشر، وإن كان في الدُّنيا روحاني يتجسَّد إذا شاء ظاهرًا، ويتروَّح إذا شاء باطنًا فهو هذا.
- قال مالك بن أنس: “كنت أرى جعفر بن محمَّد وكان كثير الدُّعابة والتَّبسُّم؛ فإذا ذكر عنده النبي (صلى الله عليه وآله) اخضر واصفر، ولقد اختلفت إليه زمانًا فما كنت أراه إلَّا على ثلاث خصال: إمَّا مصليًّا وإمَّا قائمًا وإمَّا يقرأ القرآن، وما رأيته يحدِّث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلَّا على الطهارة، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد والزُّهاد الذين يخشون الله).
وقال أيضًا: “وما رأت عين، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمَّد الصادق علمًا وعبادةً وورعًا. - قال المنصور الدوانيقي: “إنَّ جعفرا كان ممَّن قال الله فيه: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) ، وكان ممَّن اصطفى الله وكان من السَّابقين بالخيرات”.