مثالية الحاكم وصنع المعجزات

عاش المسلمون عبر تاريخهم الحافل بالتحديات، مواقف ومصاعب لا حدود لها، لاسيما في البدايات الأولى لإشهار الرسالة النبوية والانتقال من السرية إلى العلن، حيث بدأت حرب التجويع والحصار والعزلة ضد أولئك الرجال الأوائل، الذين رسّخوا أسس الإسلام في تربة كانت مليئة بالأمراض والعداوات، ومع ذلك تم غرس بذور الرسالة النبوية، ونمتْ أغصان الإيمان، واشتد عود الإسلام والمسلمين، وبدأت الحروب الكبرى تلوح في الأفق.
ومع بزوغ مبادئ الإسلام، ودخول الناس فيه أفواجا، بدأت في نفس الوقت تتضاعف التحديات الخطيرة، لدرجة أن نسيجا واهنا من بيت العنكبوت كان يفصل بين ديمومة الإسلام ونهايته، والأحداث التي جرت آنذاك، والبغضاء، وتأليب الناس ضد الحق ومحاولات إضعاف الإيمان ومحوهِ من قلوب المؤمنين، كلها كانت تحتاج إلى قادة من طراز خاص من أمثال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
لذا فإن المخاطر حتى لو كانت تحيط بالمسلمين من جميع الجوانب والجهات، فهذا الأمر ينبغي أن لا يكون سببا في تراجعهم أو خوفهم، أو تزلزل إيمانهم، لأن ما يجري اليوم في واقع المسلمين والعالم أجمع كان قد حدث في رحلة انبثاق الرسالة النبوية، وطريقها الطويل والشاق حيث التحديات الخطيرة والعداوات تكررت مرارا وتكرارا، من هنا على المؤمنين التمسك بالقرآن الكريم والتدبّر في آياته لحماية وصيانة وتقوية رصيد الإيمان في النفوس والقلوب.
إن ما يجري في خصوص الأحداث العالمية، وانتشار الحروب، والظلم الذي تلحقه القوى المتنمرة بالمجتمعات الأضعف ومن بينها بعض المجتمعات الإسلامية، يتطلب موقفا قويا من المؤمنين، من حيث وحدة الصف، وترسيخ القيم الأصيلة، والتماسك بين المسلمين، وقد مر المسلمون عبر تاريخهم بمواقف أكثر خطورة وحرجا في مواجهات لم تكن متكافئة ومع ذلك نصر الله المسلمين المؤمنين على أعدائهم.
كما قرأنا ذلك عن تلك المعارك المصيرية التي كانت تدور بين أعداد المسلمين يوم كان الإسلام لا يزال غضًّا، وكانت أعداد المقاتلين المعادين تشكل أضعافا مضاعفة من عدد المسلمين، ومع ذلك وبقوة الإيمان كتب الله تعالى النصر للمسلمين.
دائما هنالك منافقون يسعون إلى تدمير الإسلام، وتعويق تقدم المسلمين إلى أمام، وقد حدث هذا في بدايات الرسالة النبوية، حتى بعد أن وعد الله تعالى المسلمين بالانتصار على أعدائهم، لكن هنالك المنافقين الذين أغرتهم الدنيا بمغرياتها، وجعلتهم يتنكرون للإسلام ويلتحقون بالكفر والشر والرذيلة.
وهكذا نحن كمسلمين نواجه اليوم نفس المعوقات والتحديات والأخطار التي جرت في الماضي، فهل نستسلم للضعف، ونفشل في الامتحان الذي خاضوه أسلافنا الأوائل، أم أننا نقوم بما يلزم، ونتحمل مسؤوليتنا في المواجهة الصارمة والتصدي للتحديات الكبيرة التي ترغمنا قوى معادية على أن نقف تلك المواقف الإيمانية التي تنقذنا من حالات التراجع والتردّي.
يتضح بشكل لا يقبل الشك أننا نواجه نفس الامتحان القديم الذي يتكرر اليوم، وهذا يضعنا وجها لوجه أمام المواجهة الحتمية والتصدي الذي لا يقبل التردد، حيث الإيمان يدفعنا نحو تقوية أواصر الإيمان في نفوسنا وقلوبنا، بحثا عن أسباب القوة والرفْعة وحفظ الكرامة، وعدم السماح لمن يسعى لإلحاق الأذى بالمجتمعات الإسلامية.
بالطبع مثل هذه القضايا المصيرية لها علاقة مباشرة بطبيعة القيادة، وكيفية إدارة السلطة، والقضايا السياسية، وكيفية إدارة هذه المواجهة، وهذا أيضا يحتاج إلى قائد من طراز خاص، لا يختلف عن النموذج القيادي العظيم الذي تمسك بالقيم، ونشرها وعمل بها، ونجح من خلالها في إقامة الدولة القوية، والأمة المتماسكة.
هل قضية التماسك والرفعة لها علاقة بالقيادة ممثلة بشخص الحاكم وحكومته؟، الجواب نعم، الحاكم وطبيعة شخصيته وصفاته وطريقة تعامل مع القيم والواقع وتمشية شؤون الناس وفق الأحكام العادلة والمنصفة، كل هذا سوف يشكل عوامل قوة للمسلمين حكومة وحاكما وأمة، ونحن نقف اليوم كمسلمين أمام الحاكم النموذج الإمام علي عليه السلام، فحينما استشهد كان مديونا للآخرين، هذا النموذج لم يتكرر عبر التاريخ.
ليس كثيرا على حاكم مثل الإمام علي عليه السلام، أن يخرج من السلطة نظيف اليدين، فهو الذي نهل من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتعلّم في مدرسته الأخلاقية والعلمية والسياسية والاجتماعية، فكان الحاكم النموذج الذي قدم تجربة في الحكم لا يمكن أن تجد مثيلا لها عبر التاريخ، حيث رحل مديونا وبدأ ابنه الإمام الحسن عليه السلام في سداد ديونه، ألا يشكل هذا النموذج الخالد من الحكام مثالا لحكام المسلمين والعالم قاطبةً؟
بالطبع هنالك جذور تربوية ينتمي لها الإمام علي عليه السلام، وكان قد نهل منها أخلاقه وصفاته وملَكاته، ألا وهي الجذور النبوية المحمدية التي نقلت نفس القيم والتقاليد والسلوكيات إلى الإمام علي، ومنه إلى أئمة أهل البيت أحفاد الرسول صلى الله عليه وآله، الذين تربوا أيضا في المدرستين النبوية والعلوية.



