اخر الأخباراوراق المراقب

الاقتداء بالعظماء

العمل الصالح، جملة لغوية واضحة في معانيها ومقاصدها، وغالبا ما تتردد على ألسنة الناس، لكن القيام بها، وتحويلها من المعنى إلى التطبيق، تتطلب نفساً كبيرة وقلباً مؤمناً حقيقياً، يعمل لله تعالى، ويوظف عمره بالكامل للعمل الصالح، لكن الدنيا ومغرياتها قد تقف حاجزاً مانعاً أمام الإنسان الذي ينوي القيام بالأعمال الصالحة، فيبقى يردد هذه الجملة ولا يعمل بها.

في هذه الحالة مطلوب من الإنسان أن يقتدي بالعظماء، أولئك الذين جعلوا من أيامهم وسنوات أعمارهم كلّها لعمل الخير والصلاح، وهؤلاء لم يأتوا إلى الدنيا محملين بهذه المقدرة العالية على العمل الصالح، وإنما بحثوا عن النموذج الصالح كي يقتدوا به، ويصيروا مثله، بعد الجدية والبحث في مسيرة حياته والتشبّه به وبأعماله وشخصيته، ومن ثم أصبح هؤلاء أنفسهم نماذج عظيمة يُقتدى بها، ويسير الناس على نهج خطاهم وأعمالهم.

لذا على كل إنسان يحمل رسالة صالحة في حياته، أن يجد النموذج الصالح الذي يستلهم من تفاصيل سيرته، إمكانية العمل لله تعالى، لاسيما أن الدنيا تغص بالمغريات والشهوات والملذات، ومن الصعب على الإنسان أن يصرف أيام وسنوات عمره كلها للعمل الصالح.

ومن القضايا المؤشَّرة عند الإنسان، أنه يحصر قيمته بالجوانب والمقاييس المادية فقط، وهذا الأمر يقلل من قيمته ويساوي بينه وبين البهائم ومنها الأغنام، فهو يجترّ الطعام اجترارا، ويلوك الأكل من أجل أن يزيد وزنه، لأنه يظن كلما ازداد وزنه تزداد قيمته، وكأن قيمة الإنسان مرتبطة بزيادة العظام واللحم فقط، وهو لا شك تفكير خاطئ وغير سليم.

لأن قيمة الإنسان ترتبط بجوانب معنوية، وإيمانية وأخلاقية أكثر من المقاييس والمعايير المادية، فالتقوى مثلا قيمة إيمانية تمنح الإنسان درجة إيمانية عالية، وفي الوقت نفسه تجعل قيمته كبيرة بين الناس، لأن التقوى تضفي عليه قيما أخرى تجعل منه شخصا نموذجيا، مثل الصدق والتعاون والتكافل ومن ثم العمل التام لله تعالى.

الإنسان بين القيمة المادية والمعنوية

ولكن بالمقابل هناك من يراقب جسده ويتابع وزنه ويفرح عندما تتضخم عضلاته، ويزداد وزنه، وحين يخسر وزنه لأي سبب كان يحزن ويكتئب، وكأن قيمة الإنسان مرتبطة بهذا الجانب المادي حصرا، بيد أن الأمر بخلاف ذلك، فزيادة الوزن أو نقصانه، لا يقلل من قيمة الإنسان ولا يزيد منها.

ومع ذلك يوجد أشخاص يصابون بهوَس قياس الوزن، وتبعا لذلك يفرحون أو يحزنون، مع أن الأمر لا علاقة له بذلك، لأن عمل الخير هو الذي يضاعف من قيمة الإنسان.

إن هذا النوع من الناس كل ظنه أن قوة عظام جسده وكثرة اللحم وزيادة حجم العضلات، له علاقة مباشرة بتقييمه من قبل المجتمع، بينما الحقيقة أن الإكثار من مساعدة الآخرين، وإبداء الاحترام لهم، وتذليل مصاعب الحياة التي تواجههم، وزيادة نشاطه الخيري في المجتمع، وفي المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه، هو الذي يحدد قيمة الإنسان.

وهذه الصفات مرتبطة بشكل مباشر باعتناء الإنسان بالجانب المعنوي وتنميته في شخصيته، وترك القيمة المادية كزيادة وزن الجسم أو قلتها، لأنها لا يمكن أن تكون معياراً صالحاً لقياس قيمة الإنسان، فقيمة الإنسان ترتبط بمدى تمسكه بالفضيلة، وأيضا بصفة أو ملَكة التقوى التي يتمتع بها، فكلما كان متقياً أكثر، يكون أكثر قيمة بين الناس.

كل شيء واضح أمام الإنسان

من هنا يوجد تأكيد وتركيز على أهمية القيام بالأعمال الخيرية، والتمسك ببرامج عملية ذات نتائج صالحة، تنعكس على الفرد نفسه، وعلى الدائرة المجتمعية القريبة منه، وعلى مجتمعه الأكبر، فمن طبيعة الناس أن يتأثروا بالصالحين، وبالأشخاص الذين يقدمون الأعمال الخيرية على غيرها، فالنموذج الصالح أكثر تأثيرا بالآخرين من غيره.

لذا لا بدَّ أن نحذر من خداع الدنيا، فهي دائما تنصب شراكها وشِباكها للإنسان، حتى تُسقِطه في العمل الشرير، كأن تزيّن له حالات الاختلاس والسرقة والكسب الحرام للمال، أو أن تدفع به نحو الشهوات المنحرفة التي تقع خارج الأحكام الشرعية والأعراف الاجتماعية، وتجعله مشغولا بهذا النوع من المحرمات، فينسى العمل الصالح، وتغيب عنه التقوى، ويغوص في مستنقع الرذيلة ويستمتع في هذه الأعمال المنحرفة، ناسيا أو متناسيا بأن الدنيا لا همّ لها سوى خداع الإنسان بشهواته، ورغباته، فتأخذه نحو الأعمال الخارجة عن إطار الضوابط الشرعية والعرفية والأخلاقية، وهكذا يفقد فرصة أن يكون إنساناً ذا قيمة عظيمة، وهذا كله يحدث لأنه لم يقتدِ بالعظماء، ولم يتتبع سيرتهم وما جرى في حياتهم، وكيف قضوا أعمارهم وفي أي مجال أو عمل، ولو أنه كلَّف نفسه وبحث عن النموذج العظيم، لما تمكنت الدنيا أن تغريه ويسقط في خديعتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى