رسول الرحمة والحياة الزوجية

محمد علي جواد تقي..
قال رسول الله “صلى الله عليه وآله”: (ما بُني بناء في الإسلام، أحب الله من التزويج).
الجميع يتحدث عن الحياة الزوجية الناجحة، فالنجاح في هذه المرحلة من عمر الإنسان، يُعد طموحاً لكل شاب وفتاة يسعيان للاستفادة القصوى من القدرات الموهوبة مثل؛ القوة العضلية والذهنية، والجمال، والصحة والسلامة قبل الوصول الى خريف العمر.
والجميع يدّعي وصلاً بالنجاح، وأنه الأقدر عليه، بل ويتفوق على الآخرين فيه، انما المهم في الطرق والأدوات للوصول الى هذه الغاية الكبيرة، فكم من مدّعٍ لم يجنِ سوى الفشل والضياع لنفسه ولزوجته وحياته كلها.
في ذكرى مولد النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله”، وهو نبي الرحمة والانسانية، أغتنم الفرصة لاقتطاف زهرة واحدة فقط من هذه الروضة المباركة تكون وسيلة خير وبركة لحياتنا الزوجية في ظل ظروف غاية في التعقيد تعيشها معظم -إن لم نقل جميع- الشعوب التي تدين بالحب والولاء لنبيها الكريم.
وعندما نراجع روايات النبي الأكرم فيما يتعلق بالحياة الزوجية، نجد أن وجود الشاب والفتاة تحت سقف واحد، يفوق كونه مجرد عقد شرعي وقانوني باسم الزواج، تحفّه جملة من مشاعر الحب والودّ والرقّة، ليصل الى مديات أبعد حيث البناء الانساني للفرد (الأبناء)، والتأثير على الأمة بأسرها، وقد أجمع معظم العلماء والباحثين على أن، “لو صَلُحت الأسرة صَلُح المجتمع، وإن فسدت فسد المجتمع”.
النموذج العملي الرائع
صحيح إنه في روايات النبي الأكرم، وايضاً؛ الائمة الأطهار، الجانب المعنوي أكثر تحفيزاً من الجانب المادي، بيد أن المصاديق العملية في سيرتهم الوضاءة، ما يدعونا للاستفادة من تلك التجارب الناجحة ومطابقتها على الواقع الموجود، لا من حيث المظاهر، وإنما الفكرة والطريقة، فهم “عليهم السلام”، لا يطلبون منّا أن ننام على الحصير-مثلاً- أو ان نشرب الماء من الكوز، أو نتنقل على ظهور الخيل والحمير، إنما المهم في اختيار غرفة النوم أو في اختيار وسيلة النقل، وهكذا سائر الأمور الحياتية.
وأجمل مثال نورده من كتاب “جامع السعادات”، هذا السفر الأخلاقي العظيم لمؤلفه القدير؛ الشيخ النراقي، جاء فيه، أن رسول الله، دخل ذات مرة الى دار أمير المؤمنين، “فوجده جالساً ينقّي العدس، وفاطمة عند القدر، فقال له: اسمع منّي يا أبا الحسن، وما أقول إلا من أمر ربي: ما من رجل يعين امرأته في بيتها إلا كان له بكل شعرة على بدنه عبادة سنة؛ صيام نهارها وقيام ليلها، وأعطاه الله من الثواب مثل ما أعطى الصابرين؛ داود النبي ويعقوب وعيسى، يا علي، من كان في خدمة العيال في البيت، ولم يأنف كتب الله اسمه في ديوان الشهداء، وكتب له بكل يوم وليلة ثواب ألف شهيد، وكتب له بكل قدم ثواب حجة وعمرة، وأعطاه بكل عرق في جسده مدينة في الجنة، يا علي، ساعة في خدمة البيت خير من عبادة ألف سنة، وألف حجة وألف عمرة.
الرواية طويلة، اكتفي بهذا القدر لنعرف ماذا تعني الحياة الزوجية الناجحة في رؤية رسول الله، وفي قاموس الاسلام؟ ومن المؤكد؛ إذا أدركنا المعنى الحقيقي، ستكون واضحة لنا عواقب الحالة المناقضة لها.
فكم عظيمٌ هذا العمل البسيط للزوج في بيته لمساعدة زوجته، ولا مغالاة في العظمة هنا عندما نجد رسول الله يقارن بينه وبين أرقى درجات العبادة، وبينها وبين الشهادة في سبيل الله في سوح القتال، وبينها وبين حجّ بيته الحرام، ومن نافلة القول عن الحج، فان الله يولي أهمية بالغة لهذه الفريضة، ويتوعد المتخلّف عنها مستطيعاً، بأنه يكون في قبره “يهودياً أو نصرانياً”، ثم المقارنة العجيبة بين ان يساعد الزوج زوجته في عمل البيت، ومكانة الصابرين من الأنبياء العظام مثل؛ داود، ويعقوب، وعيسى.
هذه العظمة والمنزلة السامية عند الله -تعالى- لا نحصل عليها إلا بأقصى درجات التواضع لبعضنا البعض، وتغليب مشاعر الودّ والحنان على مشاعر الأنا والغرور والكِبر، فالكثير يتصور أن مفاتيح النجاح والسعادة في يديه وعلى الطرف المقابل الانصياع له، بيد أن رسول الله يؤكد أنها متوفرة عند الزوج والزوجة على حدٍ سواء، وهو القائل: “المؤمن كفء المؤمنة”، يكفي تحفيز مشاعر الحب والودّ بينهما لتحقيق النجاح بأقل التكاليف، وهذا ممكن لمن {كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.
إن الحب والودّ يتحقق من الطرفين في وقت واحد، أما إذا تشرنقت المرأة في ذاتها الميالة الى التملّك، ولاسيما المال والمجوهرات والعقار وما أشبه أو تجَلبَبَ الرجل برداء الكِبر والغرور، فمن الطبيعي الافتراق، أو العيش في ظل مشاحنات ومشاجرات لا تنتهي.
لذا حدد النبي الأكرم علامة الخير بالمرأة في أنها “أصبحهُنّ وجهاً وأقلُهنّ مهرا”، فخير النساء من تكن بهذه المواصفات لا غيرها، إذ ان عدم التعكّز على القيمة المادية للمهر، يرفع من شأن المرأة والفتاة الى ما هو أسمى وأقوى من المال الزائل، حيث الأخلاق والتديّن والقلب السليم (الضمير) الذي يتكفل بصنع السعادة والهناء، ويخفف من هواجسها ومخاوفها من المستقبل.
السعادة والنجاح درسٌ من المجربين
ربما نسترشد بالروايات والسيرة العطرة للمعصومين، “عليهم السلام”، وطبيعة حياتهم الأسرية، بيد أن المهم أيضاً؛ التعلّم المباشر من الكبار الخائضين تجارب الحياة، وعلى هؤلاء تقع مسؤولية نقل التجربة الناجحة والصحيحة الى الأبناء علّها تفيدهم في حياتهم الجديدة.
وأعتقد أن الاجماع اليوم في الوسط الاجتماعي على مسؤولية بعض الأمهات في تأزيم العلاقات الزوجية الى حد الطلاق، لأسباب واضحة أبرزها؛ تغليب جانب العاطفة والرغبة والمزاج على العقل والحكمة، وهذا البعض يتصوّرن أن تكون البنت “شاطرة” في مطالبة الزوج بكل ما تحب وترغب، هو الذي يجعلها قوية وذات شخصية تردع الزوج من الاستخفاف بها، أو انتهاك حقوقها، بينما تجارب الزمن تؤكد العكس على طول الخط، ولا أجدني بحاجة الى مزيد من التفصيل مع وجود الحالات التي لا تُعد من الأزمات في بيوتنا مع بالغ الأسف.
لكن؛ لنزور بيت أمير المؤمنين وفاطمة، “سلام الله عليهما”، ونرى كيف تعاملوا مع هذه الجزئية، وهما من البشر، فقد كانت فاطمة امرأة شابة تحب وتكره، ولها مشاعر أية امرأة أخرى في المدينة آنذاك، كما أن أمير المؤمنين كان رجلاً مثل سائر الرجال في المظهر، إنما الفارق في الجوهر، وفي طريقة التعامل مع الرغبات والقدرات المودعة من قبل الله -تعالى- في نفوس البشر.
يدخل أمير المؤمنين ذات مرة الى بيته ليستريح من عناء العمل والجهاد في سبيل الله، وما أن استقر به المقام، وأسند ظهره الى الجدار، نادى بزوجته بأن تأتي له بشيء من الطعام، فكان الجواب المفاجئ والصادم لكل زوج هذه الأيام: “ليس عندنا شيء من الطعام منذ ثلاثة أيام”! فتعجب أمير المؤمنين من هذا، وقال: “ولِمَ لم تخبريني بهذا؟”، فقالت “عليها السلام”: “التزاماً -مضمون الرواية- بوصية أبي رسول الله في لحظات الزفاف وقبل الدخول الى البيت، بأن لا تطلبي من زوجك شيئاً، فهو الذي يأتي اليك بما يطيق وإلا فلا تطلبي منه شيئاً”.
هل كان رسول الله يريد لابنته ان تكون صامتة، لا رأي لها، ولا مطلب ليستغلها زوجها -حاشاه-؟! أم يريد لبنات أمته، تحقيق السعادة والكرامة في حياتها بطريقة ذكية، تحرّك فيه مشاعر الودّ والحب في نفس الزوج؟.



