في ذكرى ولادته … الإِمَامُ مُحَمَّدُ الجَوَاد (عَ) مُعجِزَةُ اللهِ لِلعِبَادِ

الإعجاز هو بحث ومفهوم مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنبوة وبعثة الأنبياء والمرسلين وهي ما يؤيدهم به الله تعالى في إثبات مدَّعاهم بالنبوة أو الرسالة والبعثة من قبل الله تعالى، فمَنْ يدَّعي ارتباطه بما وراء الغيب والسماء فمن الطبيعي أن يطلب منه الناس أمراً يُثبت هذا الادعاء، ولا يوجد إلا المعجزة وهي خرق نواميس الطبيعة، وقوانين الفيزياء والكيمياء وكل القوانين الحاكمة والناظمة لشؤون الدنيا، وهذا أمر لا يمكن أن يفعله إلا الخالق العظيم فالذي وضع القانون وأحكمه هو الذي يستطيع خرقه وإبطاله ثم إعادته إلى حاله وطبيعته.
فقانون التوالد بين الأجيال لا يمكن أن يتم إلا عبره حفظ النسل ولا يمكن إلا أن يكون من رجل وامرأة وعلاقة بينهما حتى يحصل الحمل خلال وقت ومدة يتكامل فيها المخلوق ثم يولد من أمه التي تربيه وترضعه بغريزتها التي وضعها الله فيها، وإذا أراد البشر خرق هذا القانون -كما يجري الآن بالاستنساخ، أو عمليات التلاعب بشريط المورِّثات (dna)- فإنهم لا يستطيعون ذلك إلا بواسطة العلم، ولكن الله تعالى الذي وضع هذا القانون قال لأبينا آدم وأمنا حواء (عليهما السلام) كن: فكانا، ونفخ في السيدة مريم العذراء البتول فتحولت تلك النفخة إلى روح الله المسيح عيسى بن مريم (ع) رسول الله.
وكذلك هذا القانون يسري في كل شيء لا سيما الحيوانات فالأمر الطبيعي أن تتزاوج الناقة مع الجمل فينتجون فصيلاً، وأما الإعجاز بأن يأتي نبي الله صالح (ع) ويصلِّي ركعتين ويدعو الله فيتمخَّض الجبل في أشدِّ ما فيه من صخور فينجب ناقة ومن بعدها فصيلاً يعيشان حياة طبيعية يأكلان العشب ويشربان الماء وتعطي الناقة حليباً بمقدار الماء الذي تشربه ليشربه الناس عوضاً عن الماء والغذاء فهذا لا يمكن إلا بالإعجاز وخرق القوانين الحاكمة في الكون وهو لا يتمُّ إلا بالله تعالى وعلى يدي مَنْ يدَّعي اتصاله به سبحانه.
الإمام محمد الجواد (ع)
هو الإمام الذي ولد للإمام علي بن موسى الرِّضا بعد أن تجاوز الخمسين من عمره الشريف حتى الناس لا سيما العلويون والشيعة المقربون منه ضجُّوا من أجل ذلك وشكَّ بعضهم بالإمام -والعياذ بالله- وجاؤوا إليه يسألونه وجهاً لوجه ويردون عليه الكلام بكل صفاقة ووقاحة أحياناً بدل أن يسلِّموا له بما يقول، أو يكتبوا له الرسائل بما في أنفسهم كرسالة ابن قياما التي يرويها الشيخ الكليني فيقول: (كَتَبَ ابْنُ قِيَامَا إِلى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) كِتَاباً يَقُولُ فِيهِ: كَيْفَ تَكُونُ إِمَاماً ولَيْسَ لَكَ ولَدٌ؟! فَأَجَابَهُ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام)، شِبْهَ الْمُغْضَبِ: (وَمَا عَلَّمَكَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِي ولَدٌ؟ وَاللهِ، لَا تَمْضِ الْأَيَّامُ واللَّيَالِي حَتّى يَرْزُقَنِيَ اللهُ ولَداً ذَكَراً يَفْرُقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ).
فيأتي هذا الواقفي الضَّال ويدَّعي علم الغيب، ويشكك بعلم مَنْ يعلم الغيب، أو ذاك الذي يأتي إلى الإمام ويسأله كما عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ عَنْ أَبِي اَلْحَسَنِ اَلرِّضَا (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أَنَّهُ سُئِلَ: أَ تَكُونُ اَلْإِمَامَةُ فِي عَمٍّ أَوْ خَالٍ؟ فَقَالَ: لاَ، فَقُلْتُ: فَفِي أَخٍ؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَفِي مَنْ؟ قَالَ: (فِي وَلَدِي وَهُوَ يَوْمَئِذٍ لاَ وَلَدَ لَهُ). ، وفي رواية ابْنِ أَبِي نَصْرٍ قَالَ لِيَ ابْنُ النَّجَاشِيِّ: مَنِ الْإِمَامُ بَعْدَ صَاحِبِكَ؛ فَأَشْتَهِي أَنْ تَسْأَلَهُ حَتّى أَعْلَمَ؟ فَدَخَلْتُ عَلَى الرِّضَا (عليه السلام)، فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: فَقَالَ لِي: (الْإِمَامُ ابْنِي)، ثُمَّ قَالَ: (هَلْ يَتَجَرَّأُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ: ابْنِي ولَيْسَ لَهُ ولَدٌ؟).
نعم؛ الإمام المعصوم الذي يكون علمه من الله تعالى، يستطيع أن يقول هذا القول ويدَّعي هذا الادعاء وهو في سن فوق الخمسين ويصدق فيه لأن الإمام الرِّضا (ع) ولد له الإمام محمد الجواد (ع) وعاش معه أربع سنوات قبل أن يستقدمه عبد الله المأمون إلى مرو ثم إلى خراسان ليقتله بالسَّم ولا يدعه يرى ولده الوحيد الذي تحمَّل كل الأذى في سبيله وذلك ليكون هذا المولود العظيم الذي يقول فيه: (هذَا الْمَوْلُودُ الَّذِي لَمْ يُولَدْ مَوْلُودٌ أَعْظَمُ بَرَكَةً عَلى شِيعَتِنَا مِنْهُ).
فالإمام محمد الجواد (ع) ثبَّت إمامة والده الرِّضا (ع) في الأمة وأبطل أقوال كل الفرق الضَّالة لا سيما الواقفة والغلاة وغيرهم، ثم تحداهم في نفسه وإمامته لأنه تولى الإمامة والقيادة وأثبت جدارته فيها وهو ابن ست سنوات فقط فملأ مكان والده العظيم عالم آل محمد (صلوات الله عليهم) وولي عهد المأمون، الذي سُكَّت العملة الذهبية والفضية باسمه الشَّريف، ثم نودي باسمه كل جمعة وصلاة على ستين ألف منبر من منابر المسلمين في طول البلاد وعرضها، فلما استشهد الإمام الرِّضا (ع) وهو بعيد عن ولده الجواد (ع) تسنَّم كرسي الولاية والقيادة وقاد الأمة بحنكة وجدارة عجيبة وحتى تحدى به عبد الله المأمون بني العباس جميعاً، وعلماء الأمة الإسلامية وفاز وفلج عليهم جميعاً ببركة ووجود وعلم الإمام الجواد (ع) لا سيما في مجلسه وأسئلة يحيى بن أكثم قاضي القضاة في الدولة العباسية.
من معاجز الإمام الجواد (ع)
يروي الإمام الراحل (رحمة الله عليه) عدد من المعاجز للإمام الجواد (ع) ولكن نكتفي بهذه الرواية الجميلة التي جرت عفو الخاطر بين عبد الله المأمون حينما كان خارجاً في رحلة صيد عادية له، وصادف الإمام الجواد (ع) وجرت معه هذه القصة العجيبة الغريبة، فقد روي: إن أبا جعفر محمد بن علي (عليه السلام) لما استشهد والده علي الرِّضا (عليه السلام)، وقدم المأمون إلى بغداد بعد وفاته بسنة، اتفق أنه خرج إلى الصيد، فاجتاز بطرف البلد في طريقه والصبيان يلعبون، ومحمد (عليه السلام) واقف ينظر إليهم، وكان عمره يومئذٍ إحدى عشرة سنةً فما حولها، فلما أقبل المأمون انصرف الصبيان هاربين، ووقف أبو جعفر محمد (عليه السلام) فلم يبرح مكانه، فقرب منه المأمون فنظر إليه، وكان الله عز وعلا قد ألقى عليه مسحةً من قبول، فوقف المأمون وقال له: يا غلام، ما منعك من الانصراف مع الصبيان؟
فقال له محمد (عليه السلام) مسرعاً: (يا أمير، لم يكن بالطريق ضيق لأوسعه عليك بذهابي، ولم يكن لي جريمة فأخشاها، وظني بك أنك لا تضر من لا ذنب له فوقفت).
فأعجبه كلامه ووجهه، فقال له: ما اسمك؟ قال: (محمد).
قال: ابن مَنْ أنت؟ قال: (أنا ابن علي الرضا (عليه السلام).
فأخذ المأمون يتظاهر بالترحُّم على أبيه، وساق جواده إلى وجهته، وكان مع المأمون بزاة، فلما بعد عن العمارة، أخذ بازياً فأرسله على دراجة، فغاب عن عينه غيبةً طويلةً، ثم عاد من الجو، وفي منقاره سمكة صغيرة، وبها بقايا الحياة، فعجب المأمون من ذلك غاية العجب، فأخذها في يده، وعاد إلى داره في الطريق الذي أقبل منه، فلما وصل إلى ذلك المكان وجد الصبيان على حالهم، فانصرفوا كما فعلوا أول مرة، وأبو جعفر (عليه السلام) لم ينصرف، ووقف كما وقف أولاً.
فلما دنا منه المأمون قال: يا محمد، ما في يدي؟
فألهمه الله عز وجل أن قال: (يا أمير، إن الله تعالى خلق بمشيئته في بحر قدرته سَمَكَاً صغاراً، تصيدها بزاة الملوك والخلفاء، فيختبرون بها سُلالة أهل النبوَّة)، فلما سمع المأمون كلامه عجب منه، وجعل يطيل نظره إليه، وقال: أنت ابن الرِّضا حقاً).