اخر الأخباراوراق المراقب

الظفر بخير الدنيا والاخرة

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (إِنَّ هذا أَخي‏ لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنيها وَعَزَّني‏ فِي الْخِطابِ * قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى‏ نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغي‏ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ إِلاَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَليلٌ ما هُمْ).
كثيراً ما يسأل الناس: ما هو مفتاح طول العمر، ونماء الثروة، وزيادة الرزق، والمحبّوبيّة لدى الناس، والجنّة؟ وبالعكس، ما هو العامل الذي يؤدّي إلى قصر العمر، وأفول الثروة، ونقص الرزق، والمبغوضيّة لدى الناس، ودخول النّار؟
الـمُستفاد من الروايات الشريفة أنّ هنالك شيئًا واحدًا يحمل، في اتجاهين متضادين، هاتين الخاصّتين المتقابلتين، وأنّه هو مفتاح الجنّة والرّزق… إلخ، كما أنّه، في حالات معاكسة، مفتاح النّار ونقص الرّزق… إلخ، فما هو ذلك الشيء الواحد؟
بصيرة قرآنية: عوامل البغي والعدوان الأربعة
لنُمهّد للإجابة عن ذلك ببصيرة قرآنيّة مهمّة على ضوء الآية الكريمة – مورد البحث وآيات مناظرة، إذ تكشف لنا تلك الآيات الكريمة عن الروابط الخلفيّة لهذا المفتاح – الـمُزدوج.
فإنّ الـمُستفاد من الآيات الكريمة أنّ هنالك أربعة عوامل تقف وراء البغي والعُدوان على الآخرين: وهي الخِلطة، والسّلطة، والاستغناء، والشّاكلة، بحسب الآيات التالية:
الخِلطة
1- قال تعالى: (وَإِنَّ كَثيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغي‏ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ إِلاَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَليلٌ ما هُمْ)، فالخِلطة هي الحاضنة للبغي وهي المقتضية له، إذ مع الخِلطة تتكوّن أنواع من العداوات، ويتولّد الحسد والحِقد، وفيها تنفجر القوّة الغضبيّة… إلخ. ولو كان الإنسان مُنعزلًا في منقطع جبل أو منخفض وادٍ أو عمق غارٍ، أكان يمكن أن يبغي على أحد بضربٍ، أو إيذاءٍ، أو استهزاءٍ، أو ازدراءٍ، أو حتّى بغيبةٍ، أو تُهمةٍ، أو نميمةٍ، أو غير ذلك؟
السلطة
2- السُّلطة، وهي منشأ الطُّغيان والعُدوان، بمختلف درجاتها في كثير من الناس إن لم يكن أكثرهم، ولذا كان من سُبُل مكافحة ذلك التعدُّديّة ودفعُ الله الناس بعضهم ببعض، قال تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) ، (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثيراً).
والغريب أن بعضنا أتاه الله السُّلطة، سواء على زوجته وأولاده، أو تلامذته، أو موظّفيه أو العمّال الذين يعملون تحت أمرته، فبدل أن يشكر نعمته تعالى عليه إذ منحه العزّة والسّلطة، فيكرمهم كما أكرمه الله ويعزّهم كما أعزّه الله (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) تراه يطغى ويتجبّر ويسيء استغلال موقعه وسلطته فيهين مثلاً زوجته أو يضربها مستقوياً عليها بسلطانه، غافلًا أو متغافلاً عن أنّ الله تعالى للظّالمين لبمرصاد.
الاستغناء
3- الاستغناء، قال تعالى: (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)، والاستغناء قد يكون بالمال، وقد يكون بالعلم أو الاتباع وكثرتهم أو الشّهرة أو العلاقات الواسعة أو السمعة وماء الوجه، وهي مثار الطّغيان أيضًا.
واللافت للنظر أنّ النّاس صنفان: فصنف كالذهب يتألّق ويبرق كلما سُلّطت عليه النّار أكثر، وقسم كالخشب يحترق ويحرق… والاستغناء يفعل كذلك في النّفوس الشّريفة الأصيلة فيزيدها صفاء وعطاء وتواضعًا، وإخباتاً شكرًا لنعمته تعالى، وأما النّفوس الحقيرة الدنيئة فإن الاستغناء يزيدها طغيانًا وتجبّرًا وبخلًا ودناءة، وهكذا ترى بعضهم إذا أعطاه الله المال ينفق منه بسخاء وإذا أعطاه أكثر ازداد عطاء، عكس ذلك الذي يزداد بخلاً كلما حصل على ثروة أكبر، وبعضهم تراه كلما حصل على سمعة أحسن، جنّد ماء وجهه وسمعته أكثر فأكثر في قضاء حوائج النّاس والتّوسّط لدى هذا وذاك لحل مشاكلهم، أو كلما ازداد علمًا ازداد تواضعًا وصار وَصَولًا مع الطّلاب والنّاس أكثر، ومَثَلهما كـمَثَل الأرض الطّيبة التي إذا هطل عليها الرّذاذ فالمطر فالغيث ازدادت طيبًا وعطاء، عكس الأرض السّبخة التي، على العكس، تحوّل الماء العذب الهابط عليها إلى ماءٍ أجاج.
والحاصل أنّ بعض النّاس هم كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ).
الشاكلة

4- والشّاكلة، وقد قال تعالى: (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) ، إذ إنّ سيرة الطّغاة ومسيرتهم واحدة، فكل طاغٍ جديد يخطو إثر خطوات الطّاغوت السّابق، فكما كان ذلك يُصادر أموال النّاس يُصادرها هذا، وكما كان ذلك يزيد الضرائب باستمرار يزيدها هذا، وكما كان ذلك يُصادر الحريّات ويسجن الأحرار ويَسحق الحقوق و… يفعل هذا الجديد، حتى يتوهّم أنّه كان الطّاغوت السّابق قد أوصى اللاحق، الذي قد يكون ثائرًا عليه، بوصية الطّغيان والاستبداد.
لكنّ الجواب: كلا، لم تكن وصية أو توصية… بل هي الشّاكلة وطبيعة الطّغيان المتجذّرة في أنفسهم (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ)، ولعلّ هذا هو الـمُستظهر من الآية الشّريفة، ويكشف عن ذلك أن كثيرًا من الطّغاة الجُدد هم ممّن ثاروا على الملك أو الأمير أو الخليفة أو الرئيس القديم، مُتسلّحين بأنّه ظالم للنّاس، فإذا وصلوا هم إلى الحُكم قلّدوهم في أفعالهم تمامًا كما تُقلّد القِرَدة بعضها بعضًا، بل ربّما زادوا.
وكما قال الشاعر:
تاللهِ مَا فَعَلَتْ أُميَّةُ فيهِمُ — مِعْشَارَ مَا فَعَلَتْ بنو العبَّاسِ
وهكذا الشواكل الخبيثة لا تزيدها النِعم إلّا خبثًا ودناءة، عكس الشواكل الحسنة (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‏ شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى‏ سَبيلاً) ، و(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ).
بوابة الفساد والصلاح، في قِطعة لحم مدلّاة!
فذلك كلّه في عالم الثّبوت والواقع: إنّ هذه الأربعة (الخِلطَة، والسُّلطة، والشّاكلة، والاستغناء) هي عوامل البغي والطّغيان والعُدوان… ولكن، وفي عالم الإثبات، توجد منطقة حدوديّة، هي التي تُشكّل المدخل والبوّابة (الحسنة أو السّيئة) لكي تتمخّض الخِلطَة والسُّلطة… إلخ عن آثارها الإيجابية أو السلبية، وهي التي تقوم بهندسة العلاقة مع الآخرين.
وهذا الوسيط أو البوابة الفردوسيّة أو الجهنّميّة هي التي، كما سبق، تحمل الحالتين المتناقضتين وتكون هي السّبب في دخول الجنّة أو النّار، وطول العمر أو نُقصانه، وزيادة الرّزق ونموّ الثّروة أو العدم، والمحبوبيّة لدى النّاس ولدى الله أو المبغوضيّة.
وهذه البوابة قريبة منّا جدًّا، بل هي معنا دومًا، إلّا أنّنا لا نلتفت عادةً إلى دورها المفتاحي الرئيس في الخير والشّر، وإلى كونها البوابة العُظمى، والمنطقة الحدوديّة الخطِرة، التي إمّا أن يتسلّل منها العدو فيعيث في الأرض الفساد، وإمّا أن يُحبس ويُبعد ويُصّد ويُمنع، وهي بكل بساطة قطعة اللحم المدلّاة في الفم المسماة بـ (اللّسان) الذي يُشكّل علينا أعظم الخطر الذي يسوقنا، لا سمح الله، إلى النار، أو يكون لنا أعظم قائد يقودنا، بلطف الله وكرمه، إلى الجنّة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى